في الأيام الأخيرة لحكم الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أقرت لجنة في مجلس الشيوخ،أمس الجمعة، تشريعا لفرض حزمة من العقوبات ضد أنقرة، في تحرك لم تكن تتوقعه الأوساط التركية، بل على العكس كانت تعوّل على عرقلته، استنادا على نتاج سنوات أربع أصبحت فيها تركيا لاعبا إقليميا كان له حظوظ ومكاسب ساعد على إتاحتها سياسة الإدارة الأميركية المنتهية ولايتها في يناير. 
 
العقوبات تأتي على خلفية صفقة منظومة الدفاع الصاروخية الروسية "إس 400" التي اشترتها تركيا، والتي لطالما كانت الملف الشائك والأبرز في العلاقة بين واشنطن وأنقرة، خاصة مع إصرار الأخيرة على المضي فيها، في ظل مؤشرات على أنها تنوي استخدامها. 
 
وكان المشرعون الأميركيون قد تحركوا لفرض عقوبات على تركيا بموجب قانون "مكافحة خصوم أميركا من خلال العقوبات" (كاتسا) في عام 2019، لكن البيت الأبيض توقف منذ ذلك الحين عن فرضها، لتعود العقوبات إلى الواجهة من جديد الآن.
 
مزدوجة وفي وقت حساس
أهمية العقوبات الأميركية تأتي كونها فُرضت في وقت حساس يفصل ما بين إدارتين أميركيتين، وبين رئيسين الأول: ترامب الذي عُرف بسياسة ليّنة اتجاه نظيره رجب طيب إردوغان، على خلاف جو بايدن الذي يؤكد المحللون والمراقبون على أنه سيكون قاسيا، وسيفرض معه مشهدا سيقلب ما سار به سلفه رأسا على عقب. 
 
كما تتزامن العقوبات الأميركية مع أخرى باتت أمرا واقعا، فرضها قادة الاتحاد الأوروبي خلال اجتماعهم في بروكسل، ردا على تصرّفات أنقرة "غير القانونية والعدوانية" في البحر المتوسط ضد أثينا ونيقوسيا، حسب ما قال متحدث باسم المجلس الأوروبي.
 
ورغم أنها فردية، إلا أن بابها بقي مفتوحا لتكون "أكثر صرامة"، مع حديث لدبلوماسيين أوروبيين بأنه يمكن اتخاذ إجراءات إضافية إذا واصلت تركيا أعمالها، على أن توضع لائحة بالأسماء المعاقبة في الأسابيع المقبلة وستُعرض على الدول الأعضاء للموافقة عليها.
 
اللجوء إلى لغة الحوار
لم يتأخر الرد كثيرا من أنقرة على العقوبات الأوروبية، إذ خرج إردوغان بخطاب اعتبر فيه أن "البلدان الحكيمة في الاتحاد الأوروبي أحبطت مخططا ضد تركيا عبر طرح مواقف إيجابية خلال القمة"، وقلل أيضا من العقوبات التي يُحضّر لها من الأوروبيين، في مارس 2021. 
 
التقليل من أثر العقوبات الذي أبداه إردوغان قد لا ينسجم مع الواقع العام لبلاده، وفق محلللين، وأشاروا إلى أن التداعيات ربما لن تظهر على المدى القصير، لكنها ستكون عاملا مساعدا في عدم الاستقرار الاقتصادي الذي تعيشه البلاد، لاسيما أنها ستتوّج بعقوبات أميركية أيضا، وستكون آثارها ليس فقط على الاقتصاد، بل على السياسة الخارجية التي رسمتها أنقرة.
 
المحلل السياسي التركي، جواد غوك يرى أن العقوبات تشير إلى أن موقف الحكومة التركية "السلبي" لن يتغير لدى الأوروبيين والأميركيين، موضحا أن أنقرة ليس بمقدورها تحمل العقوبات الاقتصادية.
 
ويقول غوك في تصريحات لموقع "الحرة": "تركيا غير معتادة على هكذا عقوبات مزدوجة، فهي ليست كإيران، لذلك سوف تلجأ إلى لغة الحوار والدبلوماسية، وهناك أمل أن يفتح باب جديد بين إدارة بايدن والحكومة التركية". 
 
ويُعتبر الاقتصاد المجال الأكثر تضررا من العقوبات، حسب المحلل السياسي، الذي يشير إلى أنه يتأثر سريعا بهذه التوترات، والتي كان لها وقع كبير في الأشهر الماضية على مستويات الليرة التركية.
 
من جانبه يقول المحلل السياسي المختص بالشأن التركي، محمود علوش إن ما نشهده اليوم من عقوبات أميركية وأخرى أوروبية يشير إلى أن الأزمة بين تركيا والغرب تكمن في هامش الاستقلالية، الذي كسبته خلال السنوات الماضية في سياستها الخارجية.
 
ويضيف علوش في تصريحات لموقع "الحرة": "هذا الهامش وضع أنقرة في صدام مع الغربيين. الأميركيون والأوروبيون يتحركون لانتزاع هذا الهامش من تركيا، وإعادة إخضاعها للمنظومة الغربية".
 
رسائل إيجابية وحذرة من أنقرة
إلى واشنطن التي تختلف التوقعات بشأن علاقتها التي ستكون عليها مع أنقرة بعد وصول بايدن إلى البيت الأبيض، فعلى الرغم من أنها انحصرت في الأسابيع الماضية ضمن تصريحات الأخير الهجومية ضد إردوغان في أثناء حملته الانتخابية، لكنها قد تتغير بعد استلامه مهام الرئاسة في أميركا.
 
ويبدو أن العقوبات المرتقبة التي أعطى ترامب الضوء الأخضر لفرضها تدعم فرضية التوجه إلى علاقات أكثر سوءا في المرحلة المقبلة بين إردوغان وبايدن، لاسيما أنها شكّلت نهاية غير متوقعة ومفاجئة.
 
وفي ذات الوقت فالعقوبات الأميركية ستكون بداية سيئة للعلاقات، فأنقرة التي لم تحدد موقفا واضحا بشأنها اكتفت بتمرير التصريحات "الإيجابية والمتفائلة" على لسان إردوغان، وقبله المتحدث باسم رئاسته، إبراهيم قالن. 
 
إردوغان قال منذ أيام عند سؤاله عن مستقبل علاقات بلاده مع الولايات المتحدة في ظل إدارة بايدن: "الحديث عن ذلك ما زال مبكرا قبل بدء بايدن لممارسة مهامه في الإدارة الجديدة"، مؤكدا أنه "عندما يبدأ السيد بايدن بمهامه، سنجلس ونتحدث حول بعض الأمور، كما فعلنا ذلك في السابق".
 
وأضاف أيضا: "بعضهم يزعم استياء إدارة جو بايدن من تركيا، لكنها ادّعاءات خاطئة من بعض وسائل الإعلام".
 
في حين أعرب قالن عن ثقته بأن علاقات بلاده مع أميركا ستكون "جيدة وإيجابية" في عهد بايدن، مضيفا: "بايدن يعرف تركيا ورئيسها جيدا، وزار أنقرة لمرات عدة عندما كان يشغل منصب نائب الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. إنني على ثقة بأن علاقاتنا ستكون جيدة وإيجابية".
 
حذر يعكس الغموض
من وجهة نظر المحلل السياسي محمود علوش فإن إردوغان تجنّب في أكثر من مناسبة إصدار موقف واضح إزاء توقّعه للعلاقة المستقبلية مع إدارة بايدن، لكنّه في الوقت نفسه يرفض الجزم بأن هذه العلاقات ستكون سيّئة، معتبرا أن "هذا الحذر يعكس بطبيعة الحال الغموض لدى الأتراك حول توجّهات بايدن تجاههم". 
 
ويضيف علوش أن تركيا لا تفضل أن تكون العلاقة مع إدارة بايدن متوترة في بداياتها، لأنّ من شأن ذلك أن يُعقّد على نحو كبير مساعي التفاوض بين البلدين حول القضايا الخلافية العديدة. 
 
وتحرص أنقرة على توجيه رسائل إيجابية للإدارة الأميركية المقبلة حتى قبل أن تتولى السلطة، وإظهار أنها منفتحة على التعاون معها من أجل حل القضايا الخلافية، وبأن تركيا لا تزال جزءا من المنظومة الغربية، وأيضا أن تعاونها مع أطراف أخرى من خارج هذه المنظومة كروسيا وخلافاتها مع الأوروبيين حول شرق المتوسط لن تكون على حساب شراكتها مع الغربيين.
 
لكن وفي الوقت ذاته تتطلع أنقرة في المرحلة الحالية إلى نهج أميركي جديد معها، مختلف عن نهج الإدارات السابقة.
 
مصلحة متبادلة 
على مدار السنوات الأربع الماضية وفي عهد ترامب كان لافتا اندفاعة إردوغان على المستوى الإقليمي، والتي تمثلت في الدخول والانخراط في أكثر من صراع، أولا وبشكل كبير في سوريا، وفيما بعد إلى ليبيا، ومؤخرا في القوقاز وشرق المتوسط.
 
وفي تلك السنوات اتجهت إدارة ترامب إلى حماية أنقرة إلى حد كبير من العقوبات المقترحة في الكونغرس، لكن يبدو أن هذا الأمر سيتغير حال تولي بايدن منصبه في يناير العام المقبل، بسبب عدة ملفات عالقة بين الطرفين ليس فقط صفقة النظام الصاروخي الروسي، بل إلى اتجاهات أخرى تتعلق بحقوق الإنسان، وطبيعة العلاقة العامة مع موسكو، والتي وصلت إلى مستويات عالية باتت تقلق دول حلف الناتو.
 
ويستبعد البروفيسور أحمد أويصال مدير مركز "أورسام لدراسات الشرق الأوسط" أن تكون العلاقة بين واشنطن وأنقرة في المرحلة المقبلة "سيئة"، بالقدر الذي يروّج له على المستوى العام، من قبل محليين ومراقبين. 
 
ويقول أويصال المقيم في أنقرة في تصريحات لموقع "الحرة": "نحن نعلم أن تركيا وأميركا حليفان قديمان ويحتاجان إلى بعضها البعض، وهذا لن يتغير ببايدن أو ترامب أو غيرهما. أميركا عظمى وتركيا إقليمية، ولا يمكن أن تتخلى الأولى عن الثانية".
 
ويعتقد أويصال أن "الاتفاقيات ومنطق التحالف سيستمر في عهد بايدن، لأن أميركا لديها صراعات أكبر من تركيا في المنطقة وفي العالم، ومع الصين ومع روسيا، كما هي غير منسجمة مع الاتحاد الأوروبي".
 
ويرى رئيس مركز الدراسات أن بايدن له خبرة كبيرة في العلاقات الخارجية، ويفهم ذلك على الرغم من التصريحات السلبية التي أطلقها، معتبرا أن "موقفه سيتغير بعد وصوله إلى البيت الأبيض".
 
ضربة مسبقة ومبكرة 
لم تكن العقوبات الأميركية على أنقرة مستبعدة، حسب المحلل السياسي محمود علوش، "لكنّ المفاجأة أنها ستفرض في آخر أيام حكم ترامب، الذي عوّل عليه إردوغان في السنوات الماضية لعرقلتها".
 
ويوضح علوش أنه من المبكر الآن الحديث عن تأثير العقوبات، لأننا أمام إدارة أميركية جديدة ستتسلم السلطة قريبا، ومن غير الواضح ما إذا كانت ستمضي بهذا المسار أو ستعدل عنه.
 
لكنّ وعلى الرغم من ذلك فإن العقوبات ستشكل ضربة مسبقة ومبكرة للعلاقة بين أنقرة والإدارة الأميركية المقبلة، وستعقّد من جهود بايدن في الحديث مع الأتراك.
 
وحسب المحلل السياسي: "أنقرة نددت بالعقوبات، لكنّها لن تُغامر في ردّ فعلي من شأنه أن يُحدث ضررا إضافيا بالغا في العلاقات، كالإقدام مباشرة على تشغيل منظومة S400 الروسية، وهي لا تزال تنتظر معرفة توجّهات بايدن، وتريد أن تمنح فرصة حقيقية لإمكانية حصول تفاهم معه، وإعادة وضع العلاقات على المسار الصحيح".
 
 أما البروفيسور أحمد أويصال فتوقع أن تكون العقوبات الأميركية "رمزية"، معتبرا أن "ترامب يريد أن يفجّر الأشياء لبايدن قبل أن يغادر".
 
ويؤكد أويصال: "الدولتان (تركيا، أميركا) مهمتان ويحتاجان إلى بعضهما. تركيا لا تريد أن تخسر أميركا، والأخيرة لا تريد أن تخسر أنقرة كقوة إقليمية، ولا تريد أن تنحاز مع الروس والصين، لأن ذلك سيغير في موازنة القوى في العالم وسيؤثر سلبيا على أمريكا". 
 
الإشكالية أبعد من S400
على الرغم من أن العقوبات الأميركية المرتقبة التي يدور الحديث عنها تخصّ فقط الجزئية المتعلقة بالنظام الصاروخي الروسي "s400" الذي اشترته أنقرة، إلا أن ما تريده واشنطن قد يكون أبعد من ذلك، بنيتها إنهاء الشراكة السياسية والعسكرية بين الروس والأتراك.
 
وتدرك أنقرة بأن التراجع عن المنظومة الروسية سيعني أنها لا تستطيع مقاومة الضغط الأميركي وبأنه لا يُمكنها أن تكون مستقلة عن الغربيين في سياساتها الخارجية، وهنا يوضح المحلل السياسي محمود علوش: "لذلك تتعاطي تركيا مع قضية s400 على أنها قرار سيادي قبل أن تكون حاجة عسكرية". 
 
وهناك إجراءات اقتصادية عقابية منصوص عليها في القانون الذي أقره الكونغرس بالإجماع في عام 2017، هدفها "مواجهة خصوم أميركا من خلال العقوبات"، وينص هذا النص خصوصا على عقوبات تلقائية بمجرد أن تُبرم دولة ما "صفقة مهمة"، مع قطاع التسلح الروسي.
 
المصدر: الحرة

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية