المزاراتُ والعتباتُ والأضرحة واحدة من أهم مفردات الفكر الشيعي الغارق في الوثنية والصنمية التي جاء الإسلام أساسًا لهدمها، وإن كانت الشركيات في الجاهلية أقل مما كانت عليه عند الشيعة لاحقًا؛ حيث كان عرب الجاهلية يتعاملون مع الأصنام المحيطة بالكعبة كرموز سياسية للقبائل أكثر منها دينية، تجلب لأهل مكة المال على مر السنة من خلال الحج إليها. 
 
والواقع أن الفكر الشيعي من أساسه خليط من جملة أفكار هندية فارسية قديمة، تسربت إلى الثقافة الإسلامية عقب الفتوحات الإسلامية وتداخل الثقافات، فتقديس البشر ليست من الثقافة العربية قبل الإسلام أبدا؛ إذ كان العربي يرى نفسه ملكًا متوجًا بذاته، لم يعرف الانحناء أو السجود أو تقبيل الأيدي كما كان لدى الفرس أو الهنود سابقًا. فرسول الله- صلى الله عليه وسلم- على مكانته الدينية كان يبدو بين أصحابه كواحدٍ منهم. 
 
في الفكر الديني السني الاعتبار الأول للنص الديني فقط؛ لذا نشأ وتطور فيه علم الرجال وعلم الجرح والتعديل وظهر الاهتمام بالأسانيد واحترام الدليل، ولسان حالهم: إذا صح الدليل فهو مذهبي، خلافًا للفكر الشيعي العبرة عندهم برجل الدين ذاته فقط، ولا عبرة للدليل، ويستطيع رجل الدين عندهم التلاعب بالنصوص وحرف مسارها وتأويلها كيفما أراد؛ ومن هنا تتأتى المزارات والأضرحة وما يسمونه العتبات المقدسة، وهي منتشرة في كل دولة على مستوى المنطقة العربية كاملة، في بلاد الشام ومصر والعراق والجزيرة العربية، ويزداد انتشارها كلما زاد التخلف أكثر، وعدد العتبات والمراقد والمزارات في العراق بالمئات، أبرزها كربلاء المقدسة نفسها، والعتبة الكاظمية، وضريح ومقام الإمام زيد، ومرقد الإمام علي وغيرها، ولكثرتها وكثرة الزائرين وما يتعلق بالزيارات فقد صدر ما سمي "قانون إدارة العتبات المقدسة والمزارات الشيعية الشريفة رقم (19) لسنة 2005م". في العراق. ويحج إلى ضريح الإمام الحسين في كربلاء سنويًا ما يزيد عن مليون إيراني. 
 
مكة المكرمة في عقيدة الشيعة
 
مكة المكرمة ومعها المدينة المنورة قضية ثانوية في المعتقد الشيعي، وقداستها الدينية بعد كربلاء، خاصة الشيعة الاثني عشرية، ولهذا لم يحج إمام واحد من أئمة الهادوية إلى مكة المكرمة، ولم يؤدِّ إمام من أئمة الهادوية فريضة الحج، على قربهم من اليمن، مع أنهم يعتبرون أنفسهم زيدية، أو نسخة مخففة من الشيعة بشكل عام، وهذا راجع إلى طبيعة معتقدهم الباطني بالمقام الأول تجاه مكة المكرمة والمدينة المنورة، وقد أفتى السفاح عبدالله بن حمزة أن حكم المجبرة- وهم أهل السنة- حكم الحربيين، وأن مبرر وجود أرض للمجبرة "أهل السنة" بين ديار أهل البيت من جهة، والكعبة المشرفة من جهة أخرى عذرٌ كافٍ لسقوط الحج عنهم، فأرضهم أرضُ نجاسة، ولا يمكن لهم الاحتراز من رطوباتهم، حد تعبيره. انظر المجموع المنصوري، مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة، تحقيق: عبدالسلام بن عباس الوجيه، مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية، ط:1، 1، 2002م، ص: 135/1. 
وفي اعتقادهم أن مكة والمدينة هما دار حرب على الدوام ما دامتا خارجتَين عن سيطرتهم، فهو يقول: فأما نحن فعندنا أن كل أرض ظهرت فيها خصلة، أو خصال من الكفر المعلوم بالأدلة، ولا يفتقر مظهرها إلى ذمة من المسلمين ولا جوار، وسواء كانت أرض مكة منزل البعثة أو المدينة دار الهجرة..". نفس المصدر، ص: 93/1.
ولهذا، فحين ظهر الإمام إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم بن موسى الملقب بالسفاك، وهو من نسل الحسن بن علي، بالحجاز، وغلب على مكة أيام المستعين العباسي، غوّر العيون "هدم عيون الماء" وقتل من الحجاج كثيرًا، ونهب أموالهم، وقام من بعده أخوه محمد بن يوسف، فأربى على فعله في السفك والنهب والفساد". انظر: عمدة الطالب لابن عنبة، تحقيق السيد مهدي الرجائي، ط:1، 2009م، ص 65. 
وفيه يقول الأصفهاني: ".. فعاث وأفسد، وعرض للحجاج، وتبعه أمثال له، وقطع الميرة عن الحرم، وكرهت ذكره..". انظر: مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الأصفهاني، ط:2، ص: 524. 
ويقول عنه ابن الأثير في تاريخه، ضمن حوادث سنة 251هـ: ".. وفيها ظهر إسماعيل بن يوسف... وقتل الجند وجماعة من أهل مكة، وأخذ ما كان حُمل لإصلاح القبر من المال، وما في الكعبة وخزائنها من الذهب والفضة وغير ذلك، وأخذ كسوة الكعبة، وأخذ من الناس نحوًا من مئتي ألف دينار، وخرج منها بعد أن نهبها، وأحرق بعضها..". انظر: الكامل في التاريخ، عزالدين بن الأثير، تحقيق: عمر عبدالسلام تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 2012م، ص: 231/6.
 
مزار صنعاء.. هل هو الأول؟ 
 
تذكر المصادر التاريخية أن الإمام المهدي الحسين بن القاسم العياني 376ــ 404هـ، قد أبطل الحج إلى مكة، وحوّله إلى منطقة "عيّان"، وعيان جبل في حجّة غرب اليمن، وإليه اليوم تُنسب عزلة جبل عيان. كما أنها حاضرة منطقة سفيان، والأخيرة هي مسرح نشاط الإمام المذكور. ووفقًا للإمام أحمد بن سليمان الذي أثبت الواقعة، ثم أراد نفيها بعد ذلك، يقول ما نصه في سياق الحديث عن الإمام الحسين بن القاسم العياني: ".. وحَدّثني مَن أثِقُ به أنه قال ل‍ه: هل رأيتَ المهدي أنت؟ قال: نعم. قال: كان معي في بيتٍ، ثم قام وتهيَّأ للخروج، فانفلق ل‍ه جدارُ البيت فخرج منه، ولم يخرج من الباب. وقال: إنه أمره بالحج إلى عيّان، فأقام يحجّ سنينَ كثيرةً، وفتح شريعة الحجّ من مكة إلى عيان، فأقام يحجّ سنين كثيرةً هو وقومٌ من أصحابه قدر مئة رجل ويزيدون. وكانوا يفعلون ذلك في أيام عيد عرفة، حتى قال فيهم شاعرٌ ممن أنكر عليهم: 
حَجَّ الأنامُ إلى المحصّب من مِنًى ... وإلى مَدَقّة حَجَّ آلُ القاسم
وقد ظلت هذه الفرقة مستمرة حتى القرن التاسع الهجري. 
ومدقة هي البقعة التي حج إليها هؤلاء في جبل عيان نفسه، وترد أحيانًا بلفظ "المدقة". انظر: صورة لمخطوط "الحكمة الدرية والدلالة النورية، أحمد بن سليمان، ص: 202. 
وقد أثبت هذه الحالة الشيخ محمد عبدالعظيم الحوثي في تسجيل، على الرابط: https://twitter.com/asas12367/status/1323017741444546560?s=21 
والإمام الحسين بن القاسم هذا نفسه ادعى أنه المهدي أولًا، ثم ادعى أنه رسول من الله، ثم ادعى أنه أفضل من الرسول نفسه، ثم ادعى أن كلامه أبهر من كلام الله عز وجل. وحين طلق زوجته، تزوجها رجل آخر بعد وفاة عدتها، فلما علم هذا الإمام بذلك أخرجها من زوجها، وتشبه برسول الله، مستشهدًا بقوله تعالى: (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ). سورة الأحزاب. انظر حقائق المعرفة في علم الكلام، الإمام المتوكل أحمد بن سليمان، مراجعة وتصحيح: حسن بن يحيى اليوسفي، مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية، ط:1، 2003م، ص: 491. وننوه مرة أخرى هنا إلى أن محاولة نفي أحمد بن سليمان لها، بعد أن أورد تفاصيلها في كتابه تأكيد على صحتها. ولدرء الحرج من قِبل شيوخ الهادوية المعاصرين يُقال أن مجدالدين المؤيدي قال: غُرر على الإمام أحمد بن سليمان.
انظر موقع "منذر الزيدية" على تويتر، على الرابط: https://twitter.com/asas12367/status/1323017741444546560?s=21 
 
والشيء بالشيء يُذكر كما يقال، فإنه وفي ذات الفترة، وتحديدًا سنة 390هـ، أقدم الحاكم بأمره الفاطمي في مصر في نقل الحج من مكة إلى مصر، ".. فقد شيّد في المنطقة الواقعة بين الفسطاط والقاهرة ثلاثة مشاهد، لينقل إليها رفات النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ورفات أبي بكر وعمر من المدينة، وذلك بهدف تحويل المسلمين عنها إلى القاهرة لشد الرحال إليها، وجعلها في مقام المدينتين المقدستين، وهي محاولة كتب لها الفشل". انظر تاريخ الفاطميين في شمالي أفريقيا ومصر وبلاد الشام، د. محمد سهيل طقوش، دار النفائس، بيروت، لبنان، ط:2، 2007م، ص: 280.
ويُعتبر ضريح المؤسس الأول يحيى حسين الرسي إلى اليوم مزارًا في صعدة، وإن بصورة فردية كسياسة منهم لعدم تأليب الناس عليهم، وأغلب المؤمنين بفكرة الولاية والاصطفاء حجوا إلى ضريح الرسي في الجامع الذي سمي باسمه في صعدة، "جامع الإمام الهادي". كما أن بقية قباب وأضرحة الأئمة محل زيارة عامتهم وخاصتهم إلى اليوم. 
وقد كتب السفاح الإمَام عبدالله بن حمزة رسَالَة إلى أهل قرية "لصف" في "نهم" شرق صَنعاء، يهددهم فيها بنقل رفات أخيه المدفون هُناك إن لم يجعلوا له ضريحًا مزورًا. وقَدْ كان قبره قبل ذلك اليَوم مهجورًا، كما أمر الإمَامُ المنصور محمد بن يحيى حميد الدين أهل أرحب ببناء قبة وتابوت على قبر الإمَام أحمد بن هَاشِم الويسي، مهددًا إياهم بنقل رُفاته إلى مَكان آخر إن لم يفعلوا..! 
ما تجدر الإشارة إليه هنا أن أئمة الهادوية الرسية كانوا يغتاضون من وجود قباب أخرى لغير أئمتهم في مناطق اليمن الأسفل، فقد أقدم السَّيف أحمد حميد الدين، نهاية العشرينيَّات من القَرْن الماضي، على هدم ضريح الفقيه الصالح أحمد بن موسى بن عُجيل، في مَدينة بيت الفقيه بتهامة الذي تنتسب له المدينة، وذلك عقب هزيمة الزرانيق في الحرب الشهيرة بينها وبين أبيه، وقَدْ كان هو قائد جيش والده. كما قَام أيضًا عام 1943م بهدم ضَريح الولي الصَّالح والزاهد أحمد بن علوان في يفرس بتعز، وتسويته بالأرض، ونقل رفاته إلى مكان مجهول، تحت حُجة محاربة البِدعة، وفي ذلك قال الشاعر إبراهيم الحضراني:
أضريح أكرم ناسكٍ وتقي نبشته كف الماجن البدعي
من بين الآف القبور نبشتَه بغيًا بدون مُسوغٍ شرعي
نبشُ القبور رذيلةٌ وفضيحةٌ حتى لدى البوذي والزنجي
ما ذاك إلا أنه من مَعشرٍ سـُـنيَّة في معشرٍ سُـني
خلاصة القول: إن ما تسعى إليه جماعة الحوثي اليوم من تأسيس مزار شيعي في صنعاء القديمة، يأتي ضمن معتقدات القوم التي كانت باطنية وخرجت إلى العلن مؤخرًا، على غرار المزارات العراقية التي يؤمها آلاف الزوار، ويتم استغلالها اقتصاديًا إلى جانب استغلالها أيديولوجيًا، والأمر لا يعدو أن يكون حالة من الجنون والانتحار السياسي، باعتبار صنعاء من مدن التراث العالمي، وهدم جزء منها لتحويلها إلى مزارات شيعية يهدد بإلغائها من قائمة مدن التراث العالمي، إضافة إلى تضرر السكان أنفسهم بعد فقد ممتلكاتهم، بحُجة أن المكان من أوقاف علي بن أبي طالب، كما يردد أتباعهم. ولا شك أنه سيتبعها عدة ساحات ومزارات أخرى في كل مدينة، ولن يعدموا تسمية ما لرمز من رموزهم التاريخية.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية