صنعاء التي كانت مهد الروح وموئل الفرح، صارت اليوم ساحةً يُختطف فيها البهاء، ويُستعبد فيها الإنسان.

من أعماق المدينة المحتلة، وصلتني رسالة صديقٍ رأيتُه في صورةٍ وسط حشود "السبعين"، يحتفل بمناسبةٍ لا يؤمن بها. تعجبت، فلم أعرفه مرائيًا. فسألته: كيف؟

فجاء ردُّه كصرخة روحٍ مكبلة:
"لستم مثلنا؛ أنتم هناك أحرار، ونحن هنا رهائن الخوف. المؤسساتُ تفضح وجوهنا، والشوارعُ تتجسس على أنفاسنا. لجان الحشد تأمر، ولجان الأحياء تراقب. الغائب متهم، والمتخلف خائن. نُساق إلى الساحات كالقطعان، نرفع شعاراتٍ لا نعتقدها، نصفق لمن لا نحبه، ونزمجر للباطل كي نعيش!".

سألته: والتجار؟ والأحرار؟ أعرف الذي بجوارك في الصورة لا ينتمي لأي مؤسسة.

فأجاب بنار حزينة:
"لا أحد حر. المليشيا لم تترك لأحد خيارًا إلا الطاعة أو التهلكة. من لم يُحشّد نفسه، حُشّد اسمه في قوائم العار، وحوصِر رزقه، وشُوّهت سمعته. الناس تحضر خوفًا، وتصمت كرهًا، وتظاهر موتًا".

ثم توقف فجأة وكتب:
"كفى، المراسلات ترانا، والعيون تسمعنا. لا تُعلّق على صورتي، فقد تكون آخر أثر لي".

لكنه ختم برسالة أمل أخّاذة:
"لا تنخدعوا بالحشود، 90% منا مكبوتون. يومَ تحرير صنعاء، سترون هذا الجمهور نفسه يهتف للحرية، ويدوس بصخبٍ على أوهام المليشيا. سينقلب القهر طوفانًا، والخوف زلزالًا".

وقفة:
هذه الحكاية الفردية ليست استثناءً، بل مفتاح لفهم الطبيعة البشرية تحت وطأة الاستبداد. كيف يتحول الإنسان إلى ممثل في مسرحية لا يريدها؟ كيف تُسرق إرادته وتُستعبد جوارحه بينما يظل قلبه حرًا؟

الحوثيون لا يبنون دولة، بل يصنعون واقعًا زائفًا- سيرياليًا مرعبًا- حيث الحشود أشباح، والفرح مُصطنع، والولاء مسرحية. يغفلون أن أكبر كذبة هي التي تُفرض بالحديد والنار، وأن أشرس طاغية لا يستطيع أن يملك قلبًا يرفضه. فالإنسان المقهور قد يبتسم تحت السوط، لكنه يزرع في داخله بركانًا ينتظر لحظة الانفجار. وستسقط الأقنعة، وستعود صنعاء كما كانت: شمسًا لا يحجبها ليل، وحريةً لا تقيدها جدران.

* مأرب: 
* 4 سبتمبر 2025م.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية