خلال سنوات الحرب انقسم العرب بين مؤيد لإيران كبعض الحركات الدينية، ودول انحازت بشكل كامل للإيرانيين ولعبت دوراً مهماً في تزويدهم بالسلاح، ليبيا وسوريا، فيما وقفت دول أخرى وأحزاب قومية وليبرالية إلى جانب العراق، بينها مصر والأردن وبعض دول الخليج واليمن، وساندت العراقيين بالمال والمقاتلين -وهذا يفسر جزئياً اندفاع الحوثيين إلى تفكيك الجيش اليمني، وحله غير المعلن- بينما حاولت دول آخرى التزام الحياد كسلطنة عمان.

 

الموقف الدولي كان رافضاً للحرب عبر المؤسسات الدولية، وعلى مستوى الدول، أهمها الدول الكبرى فكانت على الحياد نظرياً غير أنها من الناحية الفعلية لم تكن ترفض طلبات شراء الأسلحة من الجانبين، والأمر يبدو طبيعياً بحسابات المصالح، إلا أن ما يثير التساؤلات هو الموقفان الأمريكي والإسرائيلي من الحرب، لما للدولتين من قوة تأثير في المنطقة، ومابينهما من توافق كبير في سياستيهما في الشرق الأوسط.

 

لعل من المناسب قبل الدخول في بعض التفاصيل الإشارة إلى أن مصلحة الدولتين إضعاف واستنزاف القوميتين الإقليميتين، العراق وإيران، لما لهما من ثروة نفطية تمكنهما من تمويل مشروعات نهضوية حقيقية، وتمويل جيشين، لا يستبعد أن يستخدما في مواجهة مصالح الأمريكيين والإسرائيليين في المنطقة، فمثلت الحرب فرصة لتصفية المشروع النهضوي – ذي الطابع القومي – لنظام الشاه السابق، والتخلص من النظام العراقي القومي الاتجاه الذي شكل بنموه وجيشه ومنحاه الاستقلالي عن الدول الكبرى خطراً فاعلاً على الإسرائيليين.

 

وفي حقيقة الأمر، فإن الموقف الأـمريكي، الذي تشكل إسرائيل أحد أهم محدداته في المنطقة، اتسم بالازدواجية، أو السياسة ذات الوجهين من الحرب العراقية الإيرانية، فالموقف المعلن كان أقرب للحياد، مع تصريحات هنا وهناك ضد الإيرانيين، لكن لاعلاقة لها بالحرب وإنما بدعم إيران للإرهاب، ويمكن القول إن الموقف الرسمي الأمريكي كان مراعياً لحلفائه العرب في المنطقة، وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية المؤيدة للعراق في حربه، رغم موقفها السلبي إجمالاً من النظام العراقي وتوجهاته العلمانية والقومية ذات الميول الاشتراكية على المستوى العربي، وما يتضمنه من انتقادات للأنظمة العربية التي تعتبرها النظريات القومية العربية ذات توجهات رجعية، إلى جوار ما توحيه من اعتبار كل ثروة على أرض عربية ملكاً للعرب جميعاً، ما يعني أن نفط الخليج ليس ملكاً لمواطني ودول الخليج العربي وحدها، بل لكل العرب، بما فيه النفط السعودي. وعلى كل حال فضلت السعودية الوقوف إلى جانب العراق لأسباب متصلة بسياسات الإيذاء الإيرانية ومقولات تصدير الثورة، ووجود أقلية شيعية مهمة في مناطق إنتاج النفط السعودية وما يمكن أن تشكله من ذراع لنظام ولاية الفقيه الديني، ظهرت احتماليته القوية مع مظاهرات عاشوراء التي تحولت لمسيرات مؤيدة للخميني في شرق السعودية.

 

أما الوجه الأخر للموقف الأمريكي فكان غير رسمي ومتورطاً في دعم إيران عسكرياً عن طريق التعاون مع إسرائيل، ومن البديهي أن المساندة الأمريكية والإسرائيلية كانت لازمة لتمكين إيران من الصمود أمام الجيش العراقي، على الأقل في السنوات الأولى للحرب، نظراً لأن الجيش الإيراني كان مبنياً وفق المعايير العسكرية الأمريكية طيلة أكثر من ثلاثين عاماً، وكانت تبعيته كاملة للأمريكيين من حيث التسليح، ولهذا فقد كان التعاون الأمريكي والإسرائيلي ضرورياً للجيش الإيراني، إن لم يكن في تزويده بأسلحة جديدة فليس أقل من عمليات الصيانة والإمداد بالذخيرة وقطع الغيار بعكس الجيش العراقي المعتمد في التسليح على مصادر متنوعة، وإن كان أهمها السلاح السوفيتي، وليس من بينها السلاح الأمريكي.

 

بالمقابل، وعلى نفس المنوال الأمريكي كانت السياسة الإيرانية، ذات وجه شعاراتي معلن شديد العداء لأمريكا وإسرائيل، تصدره الخميني، فيما الوجه غير الرسمي تولاه بصورة رئيسية مجلس الدفاع الأعلى، برضا الخميني.

 

وبوصف مجمل مسار الحرب العسكرية العراقية الإيرانية، فإنها نحو السنة والنصف الأولى، والسنة والنصف الأخيرة كانت ميدانياً لصالح القوات العراقية، وبقية الفترة كانت تصب في المصلحة الإيرانية، وكان سبب التفوق العراقي بداية الحرب يعود من حيث التسليح إلى القوة الجوية، والدبابات، حتى أن الجيش العراقي كان يقترب من هزيمة الإيرانيين باكراً باقترابه من منابع النفط الإيرانية، مصدر التمويل الأهم للجيش والحرس الثوري الإيراني، لكن الميزة النسبية للجيش العراقي تم تقليص فاعليتها إلى حد حول مسار الحرب بفضل المساندة الأمريكية والإسرائيلية، وقد كانت مناقشات مجلس الدفاع الإيراني تؤكد أن الإيرانيين غير قادرين على الصمود العسكري إلا عدة أشهر مالم يضمنوا استمرار المساعدة التسليحية الأمريكية.

 

كان التعاون الرسمي بين الجيشين الإيراني والإسرائيلي انتهى بهروب الشاه، غير أن الاتصال ظل قائماً، ولم يمنعه الخميني، بل على العكس أطلق يد ضباطه في التعامل مع زملائهم الإسرائيليين، وظل المستشارون الإسرائيليون متواجدين سراً في القواعد العسكرية الإيرانية مباشرة. وكان لهم الفضل الحاسم في قيام الطيارين الإيرانيين بأداء دورهم بعد أسبوعين من اندلاع المعارك في شط العرب، عقب عمليات الصيانة الإسرائيلية للطائرات الإيرانية، مثلما عملت أمريكا بين العامين 84-1985م على مضاعفة عدد طائرات سلاح الجو الإيراني.

 

ولاعتبارات الموقف المعلن، تم التعامل بين الأمريكيين والإيرانيين عبر وسطاء سلاح، كانوا في البداية فرنسيين، وشارك غيرهم في العملية، وبمقدمتهم ضباط إسرائيليون متقاعدون تربطهم علاقة بالعسكريين الأمريكيين من جهة، وبزملائهم الإيرانيين من جهة آخرى.

 

وكانت معظم المباحثات بين الإيرانيين والأمريكيين تجري في جنيف أو باريس أو لندن، وخلالها يشير المبعوثون الإيرانيون إلى أن من الصعب فهم الشعب الإيراني لتراجع سريع في لهجة العداء لأمريكا، لدى تبريراتهم للشعارات المعلنة.

 

مارست إسرائيل دوراً نشطاً في تزويد إيران بالسلاح من المخازن الإسرائيلية، على سبيل المثال إطارات طائرات فانتوم بعد نحو شهر فقط من اندلاع الحرب، وذخيرة للمدفعية والرشاشات، وصواريخ مختلفة، كما أن مصنعا إسرائيليا للكلاشنكوف في إيران من أيام الشاه استمر في الإنتاج ببيانات باللغة العبرية بقيت حتى منتصف الثمانينيات، وباشتراك مباشر في الحرب ضرب الطيران الإسرائيلي عام 1981 مفاعل تموز النووي العراقي، وقد لخص أرييل شارون، وزير الدفاع الإسرائيلي حينها، سياسة بلاده من الحرب بقوله في إبريل 1984م "من المؤكد أن خميني واحد من أعدى أعداء إسرائيل حقيقة: إنه يريد القضاء علينا، ولكن بما أن هناك حرباً قائمة على شط العرب فإنه ليس بوسعنا أن نريد أن ينتصر العراق، فالعراق أيضاً عدو لدود لدولة إسرائيل، والعراق أقرب لأراضينا من إيران، فإذا انتصر العراق فسوف يحدث شيء آخر ليس في صالحنا"

 

بالإضافة إلى الدور الإسرائيلي المباشر في مساندة إيران، فقد لعب دور الوسيط النشط في إعادة شحن السلاح الأمريكي إلى إيران عبر إسرائيل، وفي الواقع فقد أنقذت المساعدة الأمريكية الخميني، وكان لإمدادات السلاح الأمريكي لعامي 1980، 1986م نتائج مؤثرة في الحرب.

 

عبر الوسيط الإسرائيلي زودت أمريكا الإيرانيين بمئات الصواريخ المضادة للدبابات والطائرات _ أهم مرتكزات التفوق العراقي _، وعشرات الطائرات المقاتلة الأمريكية، وأعداد كبيرة من الدبابات طراز (إم 48)، هذا غير المعلومات السرية الاستخباراتية، ورغم سرية التعامل العسكري الأمريكي الإيراني الإسرائيلي فقد تسربت معلومات صفقات السلاح بما عرف بفضيحة إيران جيت، أو إيران كونترا.

 

سلسلة حلقات تنشرها وكالة 2 ديسمبر من ملف بعنوان (السرطان الفارسي) – الحلقة الحادي عشر..

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية