لم يعد النظام السياسي في العراق قادراً على فرض هيمنة السلطة الحالية أمام زخم الغضب الشعبي الشاب، الذي اقتحم شوارع العاصمة بغداد والمحافظات الوسطى والجنوبية، بعد 16 سنة من التغيير الذي أحدثه احتلال العراق عام 2003.

 

فقد أخفقت الوعود الوردية التي يروجها الإعلام الحكومي وعشرات الصحف والقنوات الفضائية الطائفية، التي تنفق عليها أحزاب السلطة والجيوش الإلكترونية التابعة للأحزاب الدينية، في مواصلة تجميل صورة النظام السياسي المحاصصي كل ساعة.

 

لقد أهدر ذلك النظام ما يقارب الترليون دولار من موارد البلاد ومن تبرعات الدول المانحة والمساعدات الأميركية التسليحية واللوجستية خلال تلك الفترة، من عمر مشروع رعته الولايات المتحدة منذ عام 2003 وسلمته لمعارضي نظام صدام حسين، على أمل بناء تجربة ديمقراطية تقوم على الاقتصاد الحر برعاية الغرب، الذي أنزل أطقمه العسكرية لسبع سنوات ووقّع اتفاقية تعاون إستراتيجي قبيل انسحاب القوات الأميركية من العراق.

 

لكن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن، فألوية الحرس الثوري الإيراني دخلت بمستشاريها بُعيدَ الانسحاب الأميركي، بدعوى سد الفراغ على حد وصف الرئيس الإيراني الأسبق أحمدي نجاد، لمواصلة مشروع تصدير الثورة وجعل العراق ظلاً سياسياً للمشروع الإيراني، وتقديم الدعم اللوجستي لأتباع المعارضة العراقية التي آوتها إيران حوالى ربع قرن، إبان حكم الرئيس صدام حسين، ومكنتّها من تحويل المشروع الديمقراطي الغربي الموعود إلى مشروع مقاوم للغرب ولدول الخليج العربي وتطويع الشعب العراقي في أجندة إيران واستخدام العراق ممراً لدعم "المقاومة" في لبنان وسوريا ومناطق أخرى وتحويله إلى أرض للجهاد الشيعي. هذا وسواه قد استنزفا الميزانيات العراقية بالعسكرة المستمرة للمجتمع الجديد، وحوّل تلك التوجهات الموعودة التي تعاطف معها وروّجها الغرب، إلى مجرد خطاب دعائي.

 

في حين وظفت الميزانيات العراقية طيلة تولي حزب "الدعوة الإسلامي"، منصب رئاسة الوزراء في العراق، لتعويم الدولة وإذابتها في المصالح الإستراتيجية الإيرانية دفاعاً عن مشروع بقاء إيران بعيدة من فاعلية العقوبات التي فرضها الغرب عليها، وذلك من خلال إنشاء بنوك ومصارف لنقل العملة إليها، وفتح آفاق واسعة للتجارة وترويج البضائع ذات المنشأ الإيراني، وفتح الحدود على مصراعيها للتجارة البينية بتفضيلات استيرادية هائلة، وهو ما أضرّ كثيراً بالاقتصاد العراقي ونموّه.

 

خضوع الحكومية العراقية لهذه السياسة تقاطعت بل تضاربت مع المصالح العراقية، وأدّت إلى الشلل الكلّي الذي أصاب قطاعات حيوية رئيسية كالصناعة والزراعة والصحة، والخدمات العامة التي تراجعت بشكل كبير، بل وصلت إلى الدرك الأسفل في معايير الجودة العالمية.

 

وقد تصاعدت أصوات عراقية من داخل العملية السياسية وخارجها، قبل اندلاع التظاهرات الحالية بسنوات، تطالب بالإصلاح وتغيير تلك السياسة التي قادت البلاد إلى سيطرة "داعش" وتمدده عام 2011 إلى الهيمنة على ربع مساحة العراق، وإعلان "دولة الخلافة الإرهابية"، والتي كلفت الدولة إنفاق ميزانيات ضخمة لإخراجها، وتدمير مدن نينوى تدميراً كاملاً، وأدت إلى الاستنزاف الشامل للموارد العراقية التي ضاعت بين الإنفاق على التسلح وجيوب الفاسدين حتى اضطرت الدولة للجوء إلى الاستدانة.

 

لكن تلك الأصوات المطالبة بالإصلاح واجهت لا مبالاة مفرطة من زعماء السلطة، لأن المعنيين غارقون في مشاريع العسكرة والنهب المنظم للثروات، ولم يهمهم كثيراً النظر إلى المصالح الحيوية العليا للبلاد كضرورات لاسترضاء الشعب، بعد أن ضمن الساسة الاستحواذ على أصوات الناخبين أثناء الانتخابات بسهولة، من طريق هيمنة المليشيات وأحزاب السلطة وبوسائل الترغيب والترهيب التي مقتها الشعب ورفض نتائجها، بعدم الذهاب أصلاً إلى تلك "المسرحية الانتخابية" الأخيرة، حين كانت المشاركة الفعلية لا تزيد على 20 في المئة، أنتجت زعامات مشكوكاً في شرعيتها في نظر عامة الشعب، وهو يرى صناديق الانتخابات تُحرق أمام أنظار الحكومة.

 

وكان أمام المتصدّين للعملية السياسية، المواجهة الجدية لإصلاح هذا الحال ورفضه، خياران لا ثالث لهما، إما الإيمان بالإصلاح الفوري للعملية السياسة برمتها واتباع سياسة جديدة، أو العمل على تشكيل حكومة إنقاذ وطني من داخل العملية السياسية وخارجها تمهيداً لإجراء سلسلة من التغييرات الجوهرية، لتغيير نمطية الحكم ونوع الشراكة وعبور قيد المحاصصة وتخطي الطائفية، التي أضعفت العمل الوطني وشلّت حركته.

 

وبهذا المخرج تتمكّن الدولة من الاستفادة من منافع المرحلة الانتقالية التي كرّسها المشروع الغربي، بالإبقاء على النهج الديمقراطي خياراً ملزماً للجميع والحفاظ على التداول السلمي للسلطة والحؤول دون الرجوع إلى المربع الأول في قيام انقلاب عسكري محتمل، وهو "الخلاص المرّ" للمجتمع الذي يعتمد على القبول الضمني أو الصريح للولايات المتحدة، كما يؤكد البروفيسور نديم الجابري، أحد المتخصّصين المساهمين بتصميم السياسية العراقية، أن "قيام ثورة مجتمعية شاملة أضحى الحل الوحيد أمام الجياع والمهمشين اليائسين".

 

ثورة الجياع والمحرومين، وهذا ما يحدث اليوم في شوارع بغداد التي اصطبغت بالدم العراقي وبعشرات الفتيان الغاضبين الذين سئموا حياة البؤس وملامحها، بوجوه ذويهم الموزعين على أحياء العشوائيات حول المدن الكبرى، والذي يزيد عددهم على ثلاثة ملايين نسمة... ليس بمقدور السيد عادل عبد المهدي الذي لم يمضِ على إدارته سنة كاملة، أن يحقق النقلة النوعية في حياة الناس ويحول دون تنامي الحركات الاحتجاجية، إلا بإتّباع سياسة مستقلة من جهة، ويحمي نفسه ونظامه بالعراقيين الوطنيين وتغليب مصالحهم أولاً وأخيراً، ويضرب الفاسدين من حوله لأنهم ليسوا طوق نجاة بل حزاماً ناسفاً ينبغي ألا يرتديه، لتستمر قيادته والتفاف الشعب من حوله، فهو الضمانة الأكيدة.

 

* نقلا عن موقع "اندبندنت عربية"

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية