سلسلة حلقات تنشرها وكالة 2 ديسمبر، من ملف بعنوان (خرافة الولاية)، وفيما يلي الحلقة الثالثة..

 

قد يبدو لوهلة أن القرآن بقدر ما أكد على التقوى أو التزام التعاليم الإلهية - بأوامرها ونواهيها- فإنه ضم بين دفتيه ما يشير إلى تفضيلات لا تظهر واضحة الأساس والمعيار، بل وقد توحي بالتفضيل على أساس عضوي، مما قد يعطي انطباعا بأن في القرآن وجهتي النظر المتعارضتين، التفضيل على أساس عضوي، وعلى أساس التزام ديني. قد يكون الأمر صحيحا إذا اعتبرنا القرآن الكريم تعليمات مشتتة ومفككة لا يربط بينها سوى سمتها الإلهية. لكنه حقيقة ليس كذلك، وإنما هو منظومة واحدة لا تناقض فيه ولا اختلاف.

 

وفي ضوء هذا يمكن النظر في بعض إشارات التفضيل وألفاظه الواردة في القرآن، والتي من الجائز حصرها مبدئيا بألفاظ الاصطفاء، والاجتباء، والخيرية، والتزكية، والتفضيل.

 

أولا: الاصطفاء والاجتباء: مترادفان يعنيان لغويا الاختيار ويلاحظ في السياق القرآني أن اللفظين أكثر ما أتيا كانا في الأنبياء والصالحين، أي بمعينين، كما جاء في أتباعهم، أي على العموم وبالنظر إلى السياقات يتبين أن الاصطفاء والاجتباء ليسا عملية عبثية خارجة عن معايير العدالة والحكمة والعلم الإلهي.

 

•    اصطفاء طالوت: طالوت، لم تُشتهر عنه النبوة ومع ذلك تم اصطفاؤه حسب ما أفاد النبي الذي أعلم بني إسرائيل باختيار طالوت ملكا "إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" البقرة 247، ولعل في الآية الكريمة ثلاث إشارات أساسية توضح أولا، أن الاصطفاء اختصاص إلهي بحت، ثانيا، أن الاصطفاء لم يكن عبثا وإنما قام على أساس حاجة الظرف والموضوع – وهو السياسة والحرب – بسطة العلم والجسم، ثالثا، أن الاصطفاء كان ناتجا عن علم إلهي " والله واسع عليم".

 

•    اصطفاء مريم: قد تكون مريم إحدى نبيات بني إسرائيل، فالوحي نزل عليها، وإذا لم تُشتهر عنها الدعوة فالقرآن ذكر أنبياء لم يشر إلى أنهم حملوا رسالات أو دعوا قومهم، كما أن التاريخ الديني اليهودي يقول بوجود نبيات في بني إسرائيل كالنبية خلدة، وحتى إن لم تكن مريم نبية فقد أبلغها الوحي بالاصطفاء على نساء العالمين "وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ " آل عمران 42، ويتبين من الآية أن الاصطفاء الإلهي تم بإبلاغ الملائكة لها، بمعنى أنها كانت في مرحلة نضج عقلي وعمري قادرة معها على استيعاب بلاغ الملائكة، وهذا مجددا يوضح ان الاصطفاء لم يكن اعتباطيا أو ابتداء فقد كان نتيجة التقوى أو الالتزام الديني السابق لمريم، غير دعوة ونذر والدتها الصالحة كما تشير آيات أخرى.

 

•    اصطفاء الأنبياء: من السياقات القرآنية يظهر أن الاجتباء للنبوة لا يقوم ابتداء إلا في حالة عيسى ويحيى كحالتين غاية في الخصوصية، حيث يجمع بينهما اشتراكهما في ما يخالف العادة، عدم وجود أب لعيسى وحمل العاقر بالنسبة ليحيى، وكذلك اشتراكهما في البشارة الإلهية بمولدهما، ودعوات أبويهما قبل ولادتهما.

 

ومن الشواهد على ذلك، إبراهيم عليه السلام الذي اجتمع فيه خصوصا لفظا الاصطفاء والاجتباء، وكذا موسى عليه السلام إذ في الحالتين كان الاصطفاء للرسالة والنبوة عملية لاحقة لحالة معاناة فكرية واجتماعية أسفرتا عن اقترابهما من منطقة الاصطفاء الإلهي. فحالة البحث عن الإله الحقيقي والتثبت منها أو المعاناة الفكرية بارزة في قصة إبراهيم، والمعاناة الاجتماعية ذات الأبعاد الخاصة بادية في قصة موسى.

 

إضافة لذلك فالاصطفاء والاجتباء في حق عموم الأنبياء وفقا للسياق القرآني يقترن في آيات سابقة ولاحقة للآيات التي جاء فيها اللفظان بإشارات إلى تقواهم وأعمالهم الصالحة.

 

ويمكن في هذا الصدد اعتبار الاصطفاء الإلهي اصطفاءا وظيفيا لا يفترق عن المعنى الحديث للوظيفة الإدارية –إذا اضطررنا للتشبيه والتقريب- فاصطفاء طالوت كان اصطفاءا وظيفيا للملك لتوافر متطلبات، أو اشتراطات الملك حسب الظرف الزماني آنئذ في طالوت من بسطة في العلم والجسم، في حين كانت الوظيفة النبوية منوطة بالنبي الذي أبلغهم الاختيار لطالوت.

 

ويؤكد المعنى الوظيفي للاصطفاء قوله تعالى " ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ" فاطر 32. فكأن عملية الاصطفاء لوراثة الكتاب منوطة بتوافر شروط أولية وأساسية أشارت إليها لفظة "عبادنا" إلا أن الأداء الوظيفي تفاوت بين المصطفين على ثلاثة مستويات، كما يتفاوت في الوظيفة النبوية، ما يؤدي إلى تفاوت الأفضلية في الدرجات ضمن هذه الوظيفة "وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ " الإسراء 55.

 

إذن فالوصول إلى استحقاق الاختيار والاصطفاء للوظيفة النبوية عملية مسجلة في علم الله تقتضي جهدا بشريا لتوفير شروط التقدم لل

 

وظيفة، والارتقاء إليها، كما يتبين من حالات المعاناة النضالية، الفكرية والعملية التي طالت أكثر الأنبياء ذكرا في القرآن، إبراهيم وموسى قبل استحقاقهما دخول دائرة الاصطفاء الإلهي للنبوة، ما يوحي باشتراطات أولية أشار القرآن إلى بعضها كما في قوله تعالى في إبراهيم "إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ´" الصافات 84. وكأن في لفظة "جاء" إشارة إلى بذل إبراهيم جهدا في توفير شرط سلامة القلب لنيل الاصطفاء الإلهي، ويقول فيه أيضا " وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ" الأنبياء 51. ثم يورد بعدها آيات انتقاده لأبيه وقومه، فإتيان الرشد يتوافق مع الآيات التي ترجع العمليات الاختيارية لله دون أن تعني نفي الفعل البشري بدليل قوله "وكنا به عالمين"،  وكما في شأن يوسف "وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ´" يوسف 22. وفي موسى "وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ" القصص 14. إضافة لما ورد من آيات بما فيها الآيتان الأخيرتان "كذلك نجزي المحسنين" في إشارة إلى استحقاق الحكم والعلم كعملية تأهيلية في الوظيفة النبوية، ناجمة من توفر شرط الإحسان.

 

وبعد الوصول لنيل الوظيفة النبوية تأتي مرحلة شروط العقد أو التوقيع على التعاقد وفق القواعد القانونية – إذا جاز التشبيه- والتأكيد على الالتزام بأداء مهام الوظيفة كما تشير آيات عديدة منها قوله تعالى " وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْك وَمِنْ نُوحٍ " الأحزاب 7.

 

وفي حالة وقوع الاختيار فمن الطبيعي والعدل منح امتيازات الوظيفة لمن تحصّل عليها خصوصا مع المزيد من الترقيات داخل دائرة الاصطفاء، كاستجابة بعض الطلبات، بينها حق اختيار مساعدين في حال سماح الأنظمة الوظيفية، وهو الحق الذي استخدمه بعض الأنبياء مثل إبراهيم وموسى، ومنه طلب إبراهيم سريان الإمامة على نسله فنال من ذريته القريبة النبوة كل من إسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف والأسباط ، بما يتوافق -حتى في هذه الحالة- مع الاشتراطات اللازمة للوظيفة النبوية بدليل حرمان من لا تتوافر فيهم شروط دخول دائرة الاصطفاء "قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" البقرة 124. وقوله تعالى في معظم ذرية إبراهيم "وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ " البقرة 40. وبالمثل إجابة طلب موسى في اصطفاء هارون كنبي مساعد لأداء مهام الرسالة الموسوية.

 

وبموازاة الامتيازات النبوية تظل العقوبة من حيث المبدأ قائمة في وجه كل من يخالف التزامات وظيفته النبوية كما في قوله تعالى بحق نبينا الأعظم "وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ " الحاقة 44،45،46.

 

 سوى ما أكده القرآن كقاعدة للاصطفاء بالنبوات والرسالات في قوله تعالى " اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ" لأنعام 124، وليس خاف من الآية أن الاختيار الإلهي لأشخاص معينين للأداء الرسالي عملية قائمة على علم وحكمة إلهيين وليست اختيارا عشوائيا.

 

•    اصطفاء العموم: أي بدون تعيين شخصي، يقول تعالى في قصة لوط "قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ " النمل 59، يلاحظ من سياق القصة والآيات التي أوردتها أن الاصطفاء ونجاة آل لوط كان أساسه الالتزام والتقوى، "إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ" الأعراف 82، النمل 56. حتى إذا نزعت الآية من سياقها كما في تفسيرات لها وأن المقصود بعبارة الذين اصطفى هم الرسل، فإن لوط منهم وهو من الذين يتطهرون، فيظل شرط الالتزام الديني قائما.

 

ويمكن استخلاص التالي في قضيتي الاصطفاء والاجتباء:

 

1-    أنها عملية توقيفية على الله سبحانه بالنسبة للمعينين، ومن ثم يكون من التجاوز تسمية معينين بالاصطفاء والاجتباء دون دليل نص إلهي.

 

2-    أنها ليست عشوائية وعبثية واعتباطية إنما تقوم على أسس في علم الله أوضح لنا بعضها، وما أوضحه فهو ما يلزمنا الحجة.

 

3-    أنها في الأغلب لاحقة وليست ابتدائية إلا في حالات عيسى ويحيى الخاصتين.

 

4-    أنها لا تنفي بقاء الأساس القرآني المذكور وهو التقوى.

 

5-    أن وصول المعين لدائرة الاصطفاء الإلهي ليس مطلقا بل مقترنا باشتراطات لاحقة وإضافية، والخروج عن هذه الاشتراطات يترتب عليه تأثر درجة الاصطفاء، كما في قصة ذي النون وخروجه مغاضبا.

 

6-    بالنسبة لاصطفاء العموم أو غير المعينين فهو أيضا غير مطلق ودائم ويرتبط مرة أخرى بمدى الالتزام الديني، يقول تعالى "ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ " فاطر 32. ويقول "وَ

 

لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ" الحديد 26.

 

7-    الاصطفاء، كما أنه عملية مشروطة بتبعات والتزامات، فهو عملية نسبية وليست مطلقة، فاصطفاء طالوت محدد بالملك رغم وجود نبي، واصطفاء مريم بالنسبة للنساء، واصطفاء هارون أقل درجة من اصطفاء موسى. وبنص القرآن هناك أنبياء أفضل من أنبياء بمعنى وجود تفاوت في درجات الاصطفاء، ولو كان الاصطفاء عملية مطلقة لتساوى الجميع وعدُم التفاوت بين الأنبياء.

 

ثانيا: الخيرية والتزكية: من اللافت في هذه الألفاظ أن المنسوب لبشر منها في القرآن الكريم أتى في الأغلب دون تعيين، وإنما منسوب لعموم بعضه مقرون باشتراطات، يمكن انطباقها على أي شخص يتوافر على الشروط، مع التأكيد السابق الإشارة إليه بعدم تزكية الذات.

 

من ذلك يقول تعالى " كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ.." آل عمران 110، ويقول " وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ " البقرة 129.

 

أما لفظ التفضيل فورد في القرآن كثيرا، إلا أنه في مسألة المقارنة التفضيلية بين البشر أتى بما يخص بني إسرائيل، و"بني" هنا توحي بأساس عضوي وهو ما يعنينا.

 

الحلقة الثالثة من ملف تنشره وكالة 2 ديسمبر
لقراءة الحلقة الأولى.. "من هنا"
لقراءة الحلقة الثانية.. "من هنا"

أخبار من القسم

تطورات الساعة

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية