تحرص مليشيا الحوثي على إقامة احتفائية ما تسميه يوم الغدير في معظم المدن الخاضعة لسيطرتها، كمناسبة زعمت أنها من الدين، يرافقها استغلال إمكانات الدولة ونهب أموال الناس لتمويل تحشيد قطعانها في ساحات تحددها سنويا، والترويج لهذا اليوم خدمة لنظريتها الرجعية الهادفة إلى تطويع اليمنيين وتحويلهم إلى عبيد في محافل الاستعلاء السلالي، والإصرار على ثقافة تقسيمية تمايز بين أبناء الشعب الواحد في فصيلين رئيسيين هما "القبيلي" و "السيد"، من خلال استيراد مفاهيم الزمن الإمامي العنصري في اليمن، ومقولات المكان الإيراني الفارسي بشأن "الولاية".
 
 
أصل الحكاية
منذ سيطرت مليشيا الحوثي على العاصمة صنعاء وعدد من المحافظات أواخر العام 2014 وما تبعها من استحواذ على مقدرات الدولة اليمنية، وظفت إمكانات البلاد لصالح إعادة تشكيل الشخصية اليمنية وفقا لرؤاها الطائفية وعلى رأسها ترسيخ تقسيم المجتمع بناء على تراتبية غير قابلة للتعديل أو المساومة، واستخدمت لهذا الغرض أدوات فكرية ألصقتها بالدين الإسلامي من أهمها مبدأ "الولاية"، فماذا يعني هذا المصطلح ومن أين أتى وما انعكاساته على النسيج الاجتماعي اليمني؟
 
اتصلت وكالة "2 ديسمبر" هاتفيا بالباحث المتخصص في العقائد الإسلامية المقارنة أحمد الحميري لطرح عدد من الأسئلة الآنفة عليه فرد: في البداية ينبغي معرفة أن الولاية كمفهوم تمتد جذورها إلى ما قبل العصر الإسلامي، وأكثر من ذلك إلى الديانات البدائية.
 
ويوضح بأن كتب التاريخ تشير إلى أن القبائل البدائية القديمة عبدت السلف الذي كان في يوم ما الأب الأول للقبيلة، ليصبح بعد فترة من الزمن في مفهوم الأحفاد المتكاثرين إلها وجدّا في نفس الوقت لأفراد القبيلة، فهم يعتقدون بعبادته وبانحدارهم السلالي منه.
 
ويردف: هناك طائفة أخرى ذات صلة بالسابقة من الأديان البدائية تعرف بالطوطمية يعتقد أتباع هذا النوع من الديانات بأنهم ينحدرون من "طوطم" قد يكون جمادا أو نباتا وفي الغالب حيوانا ويؤلهونه كذلك، ومع تطور الحياة السياسية وظهور الدولة في الألف الرابع قبل الميلاد، برزت ديانات تأليه الملوك، وبدلا من عبادة الإله الميت (السلف) عبد الناس الإله البشري الحي، كما يشير القرآن في قصة النمرود مع أبي الأنبياء إبراهيم، وفرعون مع النبي موسى، وادعاء الملكين الألوهية.
 
أبناء الله وأبناء النبي
مع ظاهرة تأليه الحكام، وصعوبة القبول العقلي والنفسي من قبل بعض المجتمعات القديمة، مع حاجة الملوك إلى تطويع الشعوب، لجأوا إلى اختلاق ديانة لا تؤله الحاكم مباشرة وإنما جعلته ابنا للإله، وظل انتساب البشر إلى الإله متخللا أكثر الديانات، بما فيها الديانات اليمنية القديمة التي عبدت مظاهر الطبيعة كالشمس والقمر، فكان كل قوم ينتسبون إلى إلههم المعبود، وأثرت عقيدة الانتساب للإله وعبادته حتى في الديانات المعروفة بالديانات الإبراهيمية الثلاث (اليهودية والمسيحية والإسلام) بأشكال متفاوتة وبصور تختلف في مظهرها وتتفق في جوهرها، فآمن المسيحيون بأن عيسى ابن الله، واعتقدت اليهود بأنهم شعب الله المختار والمفضل، حسبما يطرح القرآن الكريم ويؤكد بقوله تعالي "وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه..". طبقا لما أضاف الباحث الحميري.
 
ويزيد: نظرا للطبيعة التوحيدية للأديان السماوية، تحول اعتقاد الانتساب للإله إلى اعتقاد الاصطفاء الإلهي لطائفة من البشر، ليس نتيجة للالتزام الديني ومعاييره الموضوعية ذات العلاقة بالأعمال الصالحة وإنما بسبب انحدار سلالي لا من الإله هذه المرة بل من الأنبياء، وهذه هي العقيدة اليهودية التي تسللت إلى الإسلام عبر مقولات الاصطفاء وعند طوائف إسلامية تحت عنوان "الولاية".
 
قصة الخرافة
وعن الولاية ومنشئها قال الباحث في الفرق الإسلامية إن الفكرة جاءت من تمازج عقائد يهودية وفارسية متأثرة بالديانات البدائية الوثنية، تربط بين الفضيلة والنسب، وعملت في الوسط الإسلامي على اختلاق نظرية الولاية وإلباسها صيغة سياسية وسلالية.
 
ويفصّل: القصة تستند إلى حديث نبوي يقول "من كنت مولاه فهذا علي مولاه"، تعتقد مذاهب إسلامية ذات نشأة ثقافية فارسية، بتواتره وأنه قيل في مكان يسمى "غدير خم" بعد حجة الوداع، إلا أنه في الحقيقة بعيد عن التواتر خصوصا وأنه ورد بين عشرات الآلاف من أتباع النبي (مئة ألف حسب بعض الروايات) ومن ثم كان من المعقول أن ينقله على الأقل مئات الصحابة.
 
ويتابع الحميري: ومن الناحية الموضوعية، فقد حمله أنصار "الولاية" فوق ما يحتمل من اعتباره نصا بخلافة علي بن أبي طالب على المسلمين بعد الرسول، بينما هو عند استبعاد ملابسات مروية مرافقة لهذا القول النبوي لا ينصرف إلى ولاية سياسية ولا دينية ويمكن إدراجه في الاعتقاد الإسلامي بأن كل مؤمن ولي لكل مؤمن حسب ما يؤكد القرآن الكريم في قوله تعالى "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض"، وقوله "إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا"، وهنا نشير إلى أن الآية الثانية يفسرها أنصار الولاية بأن " الذين آمنوا" هو الخليفة علي بن أبي طالب معتمدين في ذلك على أثر "موضوع" في مصطلحات المحدثين، وهو المقطوع بأن النبي لم يقله. وتساءل الحميري: وإذا سلمنا بانصراف حديث الولاية إلى الخلافة العامة لعلي بن أبي طالب، فما المسوغ لتوارثها سلاليا؟!
 
الثيوقراطية والديمقراطية
وبشأن نتائج هذا الاعتقاد، يقول أكاديمي في علم الاجتماع، طلب عدم كشف اسمه، إن الولاية في أصل قيامها على عقيدة الاصطفاء الإلهي تعني من الناحية السياسية أن "الثيوقراطية" أو دولة الحق الإلهي التي تؤمن بأن الحاكم مختار لهذه المهمة من الله وهو بالضرورة مسؤول أمامه، هي النظام الأمثل للسلطة السياسية، ما يناقض روح العصر وقيمه الديمقراطية القائمة على أن الحاكم يجب أن يكون مختارا من الشعب ومسؤولا أمامه. 
 
ويواصل: والنظام الثيوقراطي أسوأ من النظام الديكتاتوري لأنه يحتويه وينتهي إليه، حسبما نلاحظ في نظام الملالي بإيران الذي مارس ديكتاتورية فظة من يومه الأول، ولأنه يتفوق على النظام الديكتاتوري لناحية أن هذا يلتف على الإرادة الشعبية لكنه لا ينكرها ويراعيها في سياساته، بعكس الثيوقراطية التي تصادر إرادة الشعب بذريعة أنها تمثل الله ولا تمثله، فيما تعبر حقيقة عن رؤية الطبقة الحاكمة المعتقدة بميزة تفضيلها الإلهي الخاص.
 
ويؤكد الأكاديمي الاجتماعي أن جانبا في خطورة فكرة الولاية يكمن في ترسخ تقسيمات عمل حكم الأئمة باليمن على خلقها ونشرها والترويج لها، تتمحور في تقسيمين أساسيين في صورة طبقية، الطبقة الأولى والأعلى هي طبقة "السادة" أو "الأشراف" وهي الطبقة المخدومة وصاحبة الحق في السلطة دون نقاش، في حين بقية اليمنيين يمثلون الطبقة الثانية والسفلى "القبيلي" أو "العربي" مع تقسيمات طبقية جامدة لحد كبير داخل هذه الطبقة، وهي بجملتها طبقة خادمة للطبقة الأولى، وفق اعتقاد أنصار نظرية الولاية.
 
ويشير إلى أن هذا التقسيم تم زرعه حتى في إطار الأعراف القبلية استغلالا لطيبة ووداعة اليمنيين، حيث أن أفراد الطبقة السلالية المزعومة لا يخضعون لكثير من التبعات القبلية فهم "هِجرة" لا يجوز المساس بهم، وعند دخولهم في خلافات مع أبناء الطبقة الثانية لا يتحملون ذات الأعباء.
 
ويضيف: لن نتطرق لنقاشات علمية وتاريخية حول ما إذا كانت الطبقة المستعلية تنحدر سلاليا من النبي حقا، لأننا في عصر المواطنة المتساوية، والتفاوت بين الناس على أسس موضوعية كالأداء في خدمة المجتمع والتأهيل العلمي، وليس على أساس الولادة. 
 
ويختم المتخصص في علم الاجتماع: لا أستغرب اندفاع من يعتقدون بانتسابهم السلالي المزعوم باتجاه ترويج "الولاية" لأنها تخدمهم، ولكن الدهشة تسيطر على المرء من أولئك المصنفين "قبيلي" بالانخراط في لعبة العبودية التي يمارسها المدعو عبدالملك الحوثي، وما يحدث يمكن تمثيله وكأن هذا الكاهن وزبانيته السلاليين ألقوا صكوك عبودية فتزاحم المغفلون على التوقيع ببيع أنفسهم قطعانا تحت الطلب الحوثي.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية