ربما لا يوجد يمني لم يسمع باسم "نشوان"، فهو اسم يمني شائع. وعلى مستوى آخر، "نشوان" رمز متوهج بالدلالة التي قد تنصرف لأول وهلة إلى رمزية "نشوان" في القصيدة الشهيرة لسلطان الصريمي، غناء "محمد مرشد ناجي":
نشوان لا تفجعك خساسة الحنشان
ولا تبهّر إذا ماتت غصون البان
الموت يا ابن التعاسة يخلق الشجعان
فكّر بباكر ولا تبكي على ما كان
"نشوان" هنا هو الإنسان اليمني النقي الأعزل الذي يكافح كل محاولات المحو والاستلاب في كل عصر، وخاصةً في مواجهة من يسمون أنفسهم اليوم "حنشان الظمأ"، وقد امتشق الشاعر "سلطان الصريمي" وهو المثقف الكبير، هذا الرمز من الذاكرة والتراث اليمني الغزير بالرموز، ومنها "نشوان الحميري" الذي جعلت منه قضيته وتجربته في الصراع مع الإمامة في عصره أحد ألمع الرموز اليمنية الخالدة، للثورة والمقاومة. 
 
ولأن التحديات التي يواجهها الإنسان اليمني اليوم هي نفسها التي واجهها "نشوان الحميري" (ت: 573 هـ) قبل تسعة قرون، ولأن صراعاتنا اليمنية مع الإمامة تبدو سرمدية؛ فكل مقاربة لتراثنا اليمني لها علاقة، بدرجة من الوضوح، بقضايانا وهمومنا السياسية الراهنة مع الحوثيين. 
 
كان نشوان شاعرًا ولُغويًا وعالمًا موسوعيًا، أشهر مؤلفاته وأضخمها على الإطلاق، هو كتاب (شمس العلوم، ودواء كلام العرب من الكلوم). ويتضمن مادة غزيرة من الأبنية اللغوية، والمعارف الموسوعية، بجانب آرائه الفقهية السياسية التي ضمّنها فكره الثوري السياسي، ورأيه حول نظام الإمامة الزيدية، وولاية آل البيت.
 
أّما أشهر قصائده فهي "القصيدة الحميرية" وفيها وفي كل مؤلفاته الأخرى، كان نشوان كثير الثقة بنفسه، والاعتداد بلقبه "الحميري" ونسبه الذي يصله بـ"حسان ذي مراثد من ملوك حمير"، وبالشكل الذي يبرز تميزه عن "الأئمة الهاشميين"، ويجسد رفضه المطلق لـ"الهاشمية السياسية" كنظرية دينية وسياسية واجتماعية دخيلة عنصرية لا يمكن للإنسان اليمني أن يتعامل معها إلا بطريقتين:
بطريقة العبيد: وبموجبها عليه أن يتخلى عن كرامته، ويقتنع أنه مخلوق أقل إنسانية، ويسمع ويطيع ويقبّل أقدام الذين يعتبرون أنهم هم السادة.
أو بطريقة الأحرار: أبناء البلد وسادتها منذ أقدم العصور، وهي طريقة غالبية أبناء الشعب اليمني منذ البداية، وإن كان بعضهم مثل "نشوان الحميري"، لهم وعي أعمق، وتعرضوا للمحنة بشكل مباشر، وتوهجوا بروح التحدي وكانوا رموزًا ومنارات لغيرهم في طريق الثورة والمقاومة.
 
"قال القفطي: كان "نشوان" يفضل قومه اليمنيين على الحجازيين، ويفاخر عدنان بقحطان، وله في ذلك نقائض مع الأشراف"، ومن وجهة نظري فقد تمادى نشوان في التعصب لقحطان حد العنصرية العرقية التي تصل ذروتها عندما يفضل القحطانيين ليس على العدنانيين فحسب، بل على البشر أجمعين، باعتبارهم جُبلوا من مادة أرقى من التي جُبل منها بقية البشر، وذلك في مثل قوله:
فافخر بقحطانٍ على كل الورى .. فالناس من طينٍ وهم من جوهرِ!
وهو تطرف نجده اليوم لدى من يسمون أنفسهم "الأقيال والعباهلة"، وفي الحالتين كان هذا التطرف رد فعل على عنصرية أكثر تطرفًا وضحالة. في الاتجاه المقابل، كان وما زال الحكام دعاة الهاشمية يتبنونها في السلطة، ويسعون إلى بثها كدين في أوساط الشعب.
 
ما يجعل نشوان الحميري "حوثيًا" هو فقط علاقته المكانية بمنطقة "حوث" من بلاد حاشد، شمالي صنعاء، فقد وُلِد بها وشب فيها، وثار منها على الأئمة، واستولى لبعض الوقت على منطقة "صبر"، التي ينسبه بعضهم إليها، وهي منطقة تقع في صعدة، وقد التبست على ياقوت الحموي في (معجم البلدان) مع جبل صبر "المطل على قلعة تعز"، فتوهم ياقوت أن نشوان حكم في تعز!
 
باستثناء المتخصصين، لا أحد يعرف اليوم من هم الأئمة الذين واجههم وثار ضدهم نشوان الحميري، لقد انقرضوا، بينما ظل وسيظل نشوان الحميري بطلًا خالدًا حاضرًا بقوة في كل معارك اليمنيين ضد الإمامة والكهنوت الإمامي، وبينما ترك نشوان وراءه الكثير من المعرفة، لم يترك الأئمة وراءهم ما يدل عليهم غير الخراب.
 
 وبالمناسبة لم يجد أئمة المملكة المتوكلية ما يحتفون به من الماضي اليمني غير إعادة طباعة كتاب "شمس العلوم" لنشوان الحميري، فهو كمعجم أبنية يمثل رقمًا مهمًا بين المعاجم العربية، بجانب كونه موسوعة معرفية شاملة، وفي سياق ذلك حُقق وطُبع لأول مرة بواسطة الأستاذ "عبدالله الجرافي"، بتكليف من الإمام يحيى حميد الدين، وطُبع في دار إحياء الكتب المصرية، القاهرة، في خمسينيات القرن الماضي، مصدَّرًا بإهداء للإمام أحمد الذي طُبع الكتاب في عهده.
 
كانت تلك الطبعة يعتريها الكثير من القصور، لأسباب تقنية وفنية حسب ما ذكره المحقق في مقدمته، وللإنصاف يُحسب للإمامين يحيى وابنه أحمد، السماح بتحقيق هذا الكتاب وطباعته، مقارنة بالحوثيين الذين كان يمكن أن يحرقوا مخطوطات هذا الكتاب وغيره من كتب نشوان الحميري، بما عُرف عنه من تاريخ ثوري مناوئ للأئمة الزيدية، سياسيًا وفكريًا وفقهيًا وعرقيًا، وثورته وقصائده المسلطة عليهم.. الإمامة سيئة، ولا أسوأ منها إلا نسختها الحوثية.
 
أياً كان الأمر، لم يلتفت النظام الجمهوري سوى في وقت متأخر كثيرًا، لأهمية هذا الكتاب وإعادة تحقيقه بشكل يليق بأهميته، فأُعيد تحقيقه على أيدي مجموعة من الأساتذة المؤرخين، منهم مطهر الإرياني، ويوسف محمد عبدالله، وطُبع في دار الفكر المعاصر، بيروت، عام "1999م" مصدّرًا بإهداء لرئيس الجمهورية "علي عبدالله صالح".

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية