كان الطفل ينتحب بشدة، ويقف أمام أبيه محاولًا صده عن لقائنا، ظن الطفل أننا حوثيون جئنا لاعتقال أبيه الذي تنفس عبق الحرية قريبًا، أصر على موقفه رغم محاولات أبيه إقناعه أننا صحفيون، وفي النهاية قرر الإضراب عن تناول وجبة الغداء بينما لا يزال اعتقاده السائد أننا نبيّت لأبيه أمرًا سيئًا. إنها صورة نمطية ارتسمت في مخيال الطفل بعد أن ذاق مرارة الفراق لسنوات ظل والده خلالها مغيبًا في سجون الحوثيين.
 
 طفل لم يتجاوز عامه السادس، غير أن مليشيا الحوثي وممارستها الإرهاب بحق اليمنيين، رجالًا ونساء وأطفالًا، جعلت السنوات الست من عمر الطفل وكأنها عقود ستة من الزمن؛ وذلك بفعل الرعب والفزع اللذين تراكما لديه منذ نعومة أظافره، عندما سيطر الحوثيون على مسقط رأسه (منطقة الكدحة) غرب تعز، وهو لا زال في بواكر طفولته رضيعًا في ربيعه الأول.
 
في مطلع يناير من العام ٢٠١٧، استدرجت مليشيا الحوثي بعد سيطرتها على منطقة الكدحة الطبيب البيطري، علي المغدري (٣٥ عامًا) من مقر عمله تحت مبرر "معنا بقرة نشتيك تعالجها"، حيث اصطحبه عنصران حوثيان على متن دراجة نارية إلى منطقة "السُحيحة" واتضح له هناك أن المليشيا كانت تبيت أمرًا آخر قصدها من ورائه إيذاء الطبيب البيطري المسالم.
 
يقول المغدري إنه اتُّهم في بادئ الأمر ببيع أدوية منتتهية الصلاحية، حيث تبين له وقتها أنه وقع في شراك الاختطاف وأضحى "بين كفي عفريت"، حسب تعبيره؛ مشيرًا إلى أن المليشيا طالبته بدفع نصف مليون ريال لإطلاق سراحه؛ إلا أنه لم يكن بوسعه دفع هذا المبلغ للخاطفين ما جعلهم يصرون على نقله من "مدرسة السحيحة" التي حولتها المليشيا آنذاك إلى سجن لاعتقال الأبرياء، إلى مدينة الصالح في الحوبان.
 
يتابع المغدري متحدثا لـ"2 ديسمبر"؛ "وصلونا إلى البرح عصر ذاك اليوم ومن ثم اتجهوا شرقًا، لم أكن أعرف تلك المناطق كوني طيلة حياتي أشتغل في الحديدة، وصلونا ليلًا إلى مدينة لا أعرفها كنت أظنها إب، ومن ثم أدخلونا مدينة لا أعرفها.. التفتّ يمين شمال، لا أعرف أين أنا، ثم أدخلوني مبنى ومنه إلى غرفة فيها مجموعة أشخاص محتجزين وأغلقوا الغرفة، سألت الشباب الذين في الغرفة: أين نحن؟ قالوا أنت في مدينة الصالح الذي حولتها مليشيا الحوثي إلى معتقل ، حينها أدركت أن الجماعة فعلًا ضربوا بي خلف الشمس كما وعدوني".
 
 يواصل المغدري رواية اعتقاله خلف القضبان في سجن مدينة الصالح حيث سيتعين عليه البقاء هناك قسرًا لنحو 5 سنوات، تحت وطأة التعذيب "بعد وصولي بلحظات قام المعتقلون في الغرفة بتلقيني النصائح بأن علي أن أعترف بما ارتكبته ما لم فسوف يحصل لي ما لا تُحمد عقباه، قلت لهم: يا جماعة أنا بريء ولا سويت شي، ظليت داخل السجن مدة ٦ شهور دون أية محاكمة هكذا عبث، وبعدين جاءت لجنة تابعة لهم تتفقد السجون، قلت لهم يا جماعة أنا هنا ما تهمتي؟ لحد الآن ما رفع أي تقرير عليك.. قالوا لي".
 
وأشار إلى أن اللجنة الحوثية استدعته للتحقيق وطالبته بتقديم اعترافات لم يكن يدري عما هي؛ مُتابعًا: "انهال علي المحقق بالضرب والصفع على الوجه والأنف حتى سال الدم منها، أنا بريء يا أخي.. قلت له، قال لي: أنت كنت على تواصل بالدواعش، قلت له اثبتوا علي واقتلوني، تلفوني معكم اعملوا استعادة للمكالمات والرسايل وإن ثبت تواصلي بالدواعش اقتلوني، أنا بيطري اشقي على أولادي، وعاد يضربنا مرة أخرى ولكن بعنف أكثر حتى أغمي علي ثلاث مرات".
 
توقف المغدري عن شرح مأساته التي صنعتها المليشيا له وأذاقته معنى العذاب في المعتقل، وأخذ يزفر الآه تلو الأخرى، تفيض عيناه بالدمع وهو يستذكر لحظات وتفاصيل تلك الأيام السوداء كما يسميها، ويضيف: "كنا نتعرض للتعذيب يوميًا، كانت هناك فرقتان واحدة تعذبنا ليلًا فيما الأخرى تسلخ جلودنا نهارًا، في غرفة مظلمة ٣×٤ متر تلتصق فيها أجساد أكثر من ١٥ فردًا، كنا لا نعرف متى الليل ومتى النهار لأن الغرفة مظلمة على مدار الوقت ما فيها فتحات تهوية غير فتحة واحدة صغيرة جدًا".
 
وطبقًا لتقارير حقوقية، فإن المليشيا الحوثية ارتكبت ما يربو على ٢٧٠٠ حالة انتهاك بحق مدنيين اختطفتهم وزجت بهم في المعتقل سيئ الذكر، والذي كان يفترض أن يغدو مدينة سكنية لولا أن المليشيا حولته إلى معتقل مثل مشاريع سكنية ومؤسسات حكومية أخرى استخدمتها الجماعة المدعومة من إيران في أغراض عسكرية وكيدية وانتقامية.
 
وذكر المغدري أن المليشيا الحوثية تُنزل أشد التعذيب بحق المعتقلين هناك، مستعرضًا قصة زميله توفيق اللحجي من أبناء مديرية المخا والذي كان يعاني من تكسر في الدم وعُذب بشكل مميت ضربًا ووخزًا بالإبر حتى أُصيب بعدها بفشل كلوي "أُصيب بالإسهال المستمر مدة ٣ أيام، وبسبب هذا أُصيب بالفشل الكلوي ومن ثم أصبح غير قادر على الحركة، ونقلوه بعد أربعة أيام من تعذيبه ومعاناته من غرفتنا، ووصلنا الخبر بعد يومين أنه فارق الحياة".
 
وقالت رئيس رابطة أمهات المختطفين في تعز أسماء الراعي، لـ"2 ديسمبر"؛ إن "مليشيا الحوثي تحتجز في مدينة الصالح ٩٥٦ مختطفًا مدنيًا منهم ٦٠ طفلًا، فيما تعرض ٨٥٠ مختطفًا منهم للإخفاء القسري داخل السجن وتم إخفاء كافة المعلومات عنهم، وتعرض ٧١٤ مختطفًا للتعذيب الجسدي و٨٦٠ مختطفًا للضرب وسوء المعاملة، بينما وثقت الرابطة بتعز بالصوت والصورة، ١٩٤ حالة من المفرج عنهم ممن تعرضوا للتعذيب الجسدي والنفسي في سجن الصالح، من أجل انتزاع اعترافهم وإجبارهم على التوقيع على أقوال لم يقولوها".
 
وقضى الطبيب البيطري في غياهب السجن 4 سنوات وتسعة أشهر، ولم يتمكن من الاتصال بزوجته إلا بعد 3 سنوات على الاختطاف؛ لافتًا إلى أنه بلغ مسامع أسرته بعد عام من اختطافه أنه قد فارق الحياة ما جعل الأسرة تقيم مراسم عزاء في مسقط رأسه وتشيعه دون جثمان، كما أن شقيقته أُصيبت بالفشل الكلوي بعد اختطافه مباشرة، "ظلت تعاني وتتمنى تسمع صوتي أو تسمع خبر سار عني لكن الأخبار جاءت بعد عام تزعم مقتلي، على إثرها فارقت أختي الحياة".
 
ورأى المغدري شمس الحرية بعد هذه المدة من الاعتقال القسري، حيث خرج من المعتقل في صفقة تبادل للأسرى بين مليشيا الحوثي ومحور تعز؛ ولدى عودته إلى مسقط رأسه وجد طفله الذي تركه وهو في ربيع عمره الأول وقد غدا ابن 6 سنوات ضمن مستقبِليه؛ لكنه لم يكن يدرك أن ذاك الطفل الذي يصفق فرحًا بالعودة بين الجموع ويجهش بالبكاء هو ابنه الذي حاول منعنا من الحديث إلى أبيه معتقدًا أننا جئنا لاختطافه وإعادته إلى سيرته الأولى تحت السياط وداخل الأقبية.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية