المقالح ليس مجرد رقم يذهب لنضعه في خانة المفقودين، ونرثيه ببعض ما نكتب؛ بل هامة وقامة، وإني لأخجل وأنا أكتب عنه، أتصبب عرقاً، فمثله أكبر من مثلي، والكلمة خرسى والحرف أجوف.. 
 
هو آلة للزمن النبيل، بتوقفه يتوقف الوقت؛ بل هو الزمن والمؤرخ لتفاصيل عالمنا من أول صيحة قبل ستين عاماً ضد الكهنة، إلى أن يرثي نفسه قبل عام من موته وقد تحوّلت محبوبته صنعاء إلى مقبرة، قالها بصمت..
 
المقالح ليس مجرد ساكن لصنعاء أتى من إب لينبهر بجمال المدينة الأخاذ وليكون أقرب للسلطة والقرار؛ بل هو صنعاء بحد ذاتها، طفق يشكلها طيلة حياته، وحرفه تشكل منها، ولمعان صنعاء بعض من عينيه، ولون روحه، هو باني المدينة في لوح الخلود، واختط مع سام بن نوح خطط هذه المدينة الفارقة، وللشبابيك لون قصائده، وطرقات صنعاء أتت من موازين حداثة شعره وإليه تنتهي، وهو أول باب في صنعاء وقضى حياته نصفاً كابن لصنعاء وأباً لصنعاء في النصف الآخر، وبين بنوة وأبوة المقالح تشكلت مدينة الأزل، صنعاء التي لا بد منها مهما حدث.
 
المقالح ليس شاعراً فحسب؛ بل ثائر كان الشعر بعض سلاحه، وفي الصمت مقاومة وكفاح، حمل على كفيه هذه البلاد إلى كل شرفات العالم، كان المقالح شرفة نرى منها  ومنها نُرى، وقادنا إلى التاريخ السري والعلني للماضي، وقاد إلينا سيف وعاقصة، بروميثيوس وبنلوب، ورسم لنا عالماً مضى ليحسم به عوالم تأتي، من تدمُر إلى نينوى، من بلاط كسرى إلى بلاط قيصر وفي فساطيط الحكام شاهدنا كل شيء، ضحكنا وبكينا، وفزنا وخسرنا، وهو الوحيد الذي قذف بسيف بن ذي يزن إلى نبع الخلود، وقام بغسله من خطيئته، وأعاده إلينا يمانياً شامخاً وهذه البلاد تغفر له استقدام عبيد الفرس، قام بغسل يماني شامخ وبيّضه.. إنه عبدالعزيز المقالح، عزيز الحرف والمقام..
 
موته ألغى كل حدث آخر، تشييعه غطى على كل حدث، فالعالم العربي يرثيه والناس في اليمن كلهم يتحدثون عن الأب الشاعر والناقد والإداري والسبتمبري عبدالعزيز المقالح، يبكونك أيها الحي، في الخليج وشط العرب، من بلاد الرافدين يرثونك وموريتانيا تفتقدك فأنت عروبتها الحقة، ومصر لم تنم، وأنت شجرة فارعة في تونس الخضراء، ومسقط تلهج بذكرك، فموتك هز وجدان الناس، كانوا يرونك ويشعرون بالعروبة وبالجمهورية، ولكلماتك وقع السيوف تحرضهم على كسر الجدار ويغنون كل لحظة "لا بد من صنعاء"، فهي العنوان الأسمى والأبرز للناس، صنعاء تفتقدك يا مقالح.. الشعر يفتقدك.. الوطن.. والأمنيات العالقة في فوهات البنادق يا عزيز.. 
 
يفتقدك الوطن الذي شاركته هدم الجدار، وتفتقدك الكلمة والمعنى الثوري الجليل، فلا شيء إلا وهو ينبع من كلماتك، وها أنت تغادر بصمت هذا الوطن الذي أمسى بوجود الكهنة مقبرة وقد قلتها أنت قبل موتك، قلت ذلك؛ إن موتك اقترب وستفر من صمت القبور وإلى صمت القبور، من صمتك إلى صمتك، فقد تحولت صنعاء إلى مقبرة..
 
هل تعلم أيها العزيز؛ كل الذين في الجبهات من جند ومن أحرار لو سألناهم عن شيء يجاوبوننا بجواب واحد كتبته أنت: لا بد من صنعاء وإن طال السفر، أنت حاضر في كل ملحمة.. هذا السطر من روحك شكل ذهنية الجماهير لستين سنة، ولا يزال هو المحرك الثوري وزيت النضال وإلى اللحظة تشتعل على إثره فوهات البنادق؛ فسطرك الخالد يختصر معنى المعركة الوطنية سابقاً ولاحقاً، فلابد من صنعاء يا عبدالعزيز، ولن نخذل قولك الأسمى، فأنت عنواناً ماجداً للمعركة الوطنية وعلى هديك، على هدي شعرك، ستمضي جيوش الأحرار لتنقذ العاصمة المقدسة لليمنيين حيث مثواك يشتعل بالانتظار، والنوم بهناء، وقد عادت صنعاء إلى الأبد..
 
كنت مليئاً بالوطن، أيها المقالح، كل حرف تغلفه بالوطن، ولصنعاء في شعرك أبوابها السبعة، وكأنك منذ زمن بعيد تدرك هذه الكارثة الحوثية فخاطبتنا أن لصنعاء أبواباً سبعة، وتعِدنا أن صنعاء جنة ومن يتخلى عن جنته! وأردت أن تقول: تنتظركم صنعاء بأبوابها السبعة، فهي عاصمة الروح، حسب قولك، وهذا أدق وصف لصنعاء، ومصير الأرواح أن تتلاقى، فإن خرجنا من صنعاء فهي لا تخرج منا؛ كونها عاصمة الروح، 
وهي كنز الأحلام،
 وهي البهاء 
والترانيم
 والقصيدة
 والطيب
 والشجن..
ويبشرنا المقالح منذ زمن أن صنعاء تجيء، كل مرة من الماء، بعد غياب مع الرمل والقمل، يقصد بالقمل الإمامة..
من ألف ليل وليل تجيء، هكذا قال المقالح، ولا زال صوته يدوي عابراً كل هذه السنوات وليالي الأنس والأسى، ستعود صنعاء إلى ذاتها.. وأهلها.. وإلى زمن فيه التفاؤل.. ونحن نعيش هذا الليل الحوثي، والظلمة الكهنوتية، نذهب إلى قصائد المقالح في ديوان صنعاء ونترقب عودة صنعاء من ثنايا كلماته ومن القصائد، فبشرى لصنعاء، هو بحدس ملاك يعيد لنا صنعاء ألف مرة. 
 
سيعود الرجال، ألف مرة، وستكتب القصائد وتنشر الجرائد أن نقم وعيبان ينتظران رجال الأزمنة الماجدة، فتتقدم الكلمات وتنهض أقلام الأباة، والجميع يهتفون قصيدتك "إلى السلاح" والنفير يغني معك قصيدة اقتحام الموت، وسيذهب جنكيز خان غارقاً بدمه وسيموت الوشاح، سيموت ببغيه، فمهما ارتدت مدننا السواد، وإن غرقت النساء بالحداد سنقاتل مع أحرفك وندحر الليل والإرهاب والسجون، ونؤكد صباحية باسمك ووثيقتنا مع الصباح، إلى السلاح.. وتجيبك معنا همم الرجال من صعدة إلى مأرب وإلى الضالع وفي الساحل الغربي.. إلى السلاح وتتقافز القصائد تلحقها البنادق، وفارسك المنتظر هو كل هؤلاء الشجعان في مقتبل الجبهات، وفي يوم الجلاء والشهداء، نكتب كما أوصيتنا أنت انتصارنا على النجوم، وسيتحقق حلمك بعالم جديد لا فرق فيه، ولا سيادة لأحد، عالم يعانق القمر ويحتضن الزهر إنسانه السعيد، نعم، على هديك وبشريعتك أنت.. نمضي إلى النصر..
 
أنت الحي، يا من لا يموت؛ لكن ولي عتب عليك، لماذا ترجلت؟ أيها الفارس، لماذا ترجلت؟ سيكون مذاق النصر نيئاً دونك، فمن سيكتب قصيدة الملاحم الكبيرة ومن إلاك سيفتح لنا الباب؟ أبواب صنعاء موصدة طالما رحلت، فلم تكن مزلاج القصيدة فحسب؛ بل مزلاجاً لكل شيء، مفتتح كل شيء، وصنعاء من أدواتك وبعض ما تحب، وتخصك صنعاء أكثر، وأكبر، وأول الناس الذين عليهم تتكئ الملاحم، فهلا بقيت بضع وقت؟ لكنه الزمن لا يمالئ ولا يتهاون أو يستهين، أفقدنا صنعاء مرتين، مرة بسقوطها بيد الإمامي الجديد ومرة بموتك، يا حي لا يموت..
 
يا أبجدية الحرب، كلهم ذهبوا بشعرهم مذاهب شتى وبقيت وحدك طيلة العمر تكتب للحرب على طريق الحب، تؤرخ صيحات البطولة مذ مبتدأ العمر باحثاً عن اليمن المنشود ومكبراً تحت رايات الشموخ، ومتوشحاً بألوان الراية الثلاثة في محطاتك الثلاث، شاباً وشباباً وكهلاً، يا شاعراً أذاب بين يديه اللغة، الناس حزانى، الناس يتناقلون خبر موتك وكأنما سقطت صنعاء اليوم، واجمون وبذهولهم يتحدثون ويتناقلون شعرك يا من لا شبيه له، الأميون الذين يعرفونك قبل المثقفين، طلاب المدارس والعمال في متوسط أعمالهم، والعرب، كل العرب، أحزنهم رحيلك الموجع يا من أبيت مغادرة صنعاء إلا إلى صنعاء، ومن صمتك الأخير إلى صمتك.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية