سمير اليوسفي يكتب: جمهورية الـ”تريند”؟
ظننت أنني رأيت كل شيء: حروباً أهلية وسلاماً بارداً، صعود إمبراطوريات وسقوطها المدوي، ثورات تأكل أبناءها وانقلابات تلد وحوشها. لكن ما أراه اليوم يجعلني أفرك عينيّ وأتساءل: هل هذا هو العالم الذي عرفته؟ علاقات تُبنى بـ«لايك» وتنهار بـ«بلوك»، وجيل جديد يقيس قيمته بعدد القلوب الحمراء التي يحصدها كل مساء.
في الماضي كان الرجل يُقاس بمكانته الدينية أو القبلية، أو بشهاداته العليا. وفي مستهل الحرب اليمنية كان المعيار عدد الأطقم والمرافقين والجُعب والقعشات. اليوم تغيّّر المقياس تماماً: عدد المتابعين! صاحب الأرقام الكبيرة صار شيخ مجلس أو زعيماً رقمياً تُغدق عليه الإعلانات، وكأننا نعيش في «دولة الهاشتاج» حيث القيمة تختصر في التفاعل الافتراضي. يكفي أن تكتب فتاة جملة عابرة لتحصد آلاف الإعجابات، بينما صحفيون ومفكرون كبار يتعبون في التحقيقات والتحليلات ولا يجدون سوى بضع نقرات باهتة. من حسن حظ محمد حسنين هيكل أنه رحل قبل ثورة السوشيال ميديا، وإلا لتحسّر على زمن كانت فيه الكلمة تهز العروش وتغيّر مجرى التاريخ.
اللايك نفسه تحوّل إلى قضية وطنية، والفضاء الرقمي صار أشبه بمحكمة تفتيش. كل «لايك» شهادة ولاء، وكل «شير» وثيقة إدانة، وكل تجاهل خيانة عظمى. وبات المرء يحسب لأبسط “لايك” أو “شير” ألف حساب، خشية أن يفسد علاقته بشخص ما أو يغضب السلطة، وكأنه متأهب للحصول على مقعد وزاري قد يطيح به تفاعل عابر. لقد فقدنا القدرة على التعايش مع الرمادي، وصار العالم أبيض أو أسود فقط. وما يزيد الطين بلة أن هذه الأرقام كثيراً ما تكون زائفة: حسابات بملايين المتابعين لا تحصد سوى حفنة تفاعلات، وأخرى صغيرة تضجّ بالحياة. بل إن شركات باتت تعرض بيع المتابعين وضمان «ديمومتهم»، في انتخابات رقمية مزوّرة لا تسمن ولا تغني من جوع.
في اليمن تحديداً، صار الترند هو سيد الموقف حتى في القضايا الجنائية. في قضية اغتيال #افتهان_المشهري، تحول الهاشتاج إلى جيش إلكتروني حاصر السلطة المحلية في تعز. عندها فقط، ظهر لنا “الرئيس تريند” في أبهى تجلياته: قائد لا تحركه تقارير الأجهزة، بل إشعارات فيسبوك ومنصة X. ولكن حتى هذه الاستجابة لم تكن سوى ذروة المسرحية؛ فبينما كان “اللايك” الرئاسي يحصد الثناء،لاتزال رؤوس الجريمة الحقيقية آمنة خارج إطار العدالة. وهكذا، لم يعد التريند يحقق العدل، بل صار مجرد أداة لإخراج مسرحية متقنة للعدالة، تتحول فيها دماء الضحايا إلى محتوى يهدف لامتصاص الغضب لا أكثر.
وفي اليمن أيضاً، صار بعض القادة بلا دولة ولا جيش، وكل ما يملكونه قروب «واتساب». هناك يعينون ويقيلون ويحاكمون. بدل الجيوش النظامية ظهر الذباب الإلكتروني، وبدل الرصاص صارت الهاشتاقات. بلد يتهاوى، وقادته مشغولون بتوزيع صلاحيات في فضاء افتراضي لا يغيّر شيئاً في الواقع. كنا ننتظر بيانات عسكرية، فأصبحنا ننتظر ترند فيسبوك أو منصة X.
جيل اليوم يعيش تحت ضغط التفاعل: يصور طعامه وحزنه وسفره في انتظار «لايك» يؤكد أنه ما زال حياً. لقد صرنا ممثلين في مسلسل لا ينتهي، والجمهور افتراضي قد يصفق اليوم ويصفّر غداً.
في «جمهورية التريند»، حتى العدالة والكرامة والموت نفسه لا يتحرك إلا بخطة تسويق. لكن الكلمة الحرة تُكتب وفاءً لعهد، لا انتظاراً لتفاعل.