الإرهاب والقرصنة حجتان للقوى التقليدية للتمركز في القرن الأفريقي، وفخ الديون يمنح بكين فرصة أكبر للتمدد في المنطقة.

 

تتمتع جيبوتي، ثالثة أصغر الدول في أفريقيا، بمكانة بارزة على مستوى إقليمي ودولي، جعلت القوى الكبرى تدخل في منافسة حامية في سباق “التدافع على أفريقيا” للحفاظ على نفوذها الاقتصادي والعسكري في هذه المنطقة الاستراتيجية.

 

وفي ظل غياب القدرة على خلق ثروة اقتصادية كبيرة من مواردها الطبيعية، سعى زعماء جيبوتي إلى استثمار موقع البلاد الاستراتيجي في تأجير أراضيها للجيوش الأجنبية الساعية إلى إنشاء قواعد عسكرية، والباحثة عن طريق للدخول إلى أفريقيا أو حماية مصالحها في المنطقة، الأفريقية وحتى الشرق أوسطية.

 

تستضيف جيبوتي قواعد عسكرية أجنبية أكثر من أي دولة أخرى، حيث تحافظ القوات الفرنسية والأميركية والإيطالية والصينية واليابانية على وجود دائم هناك. وبعد حصول جيبوتي على الاستقلال عام 1997 بقيت القوات الفرنسية فيها.

 

ويعمل حاليا ما يقرب من 1500 موظف فرنسي في جيبوتي، واحدة من أكبر الجاليات خارج فرنسا. وأدى تزايد أعمال القرصنة والإرهاب في دول القرن الأفريقي إلى جذب جيوش أجنبية أخرى إلى جيبوتي.

 

وفي السنة التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر، قامت جيبوتي بتأجير معسكر ليمونيه إلى الولايات المتحدة، ويضم مقر قوة العمل المشتركة الموحدة في القرن الأفريقي (أفريكوم). ويعتبر معسكر ليمونيه القاعدة العسكرية الأميركية الدائمة الوحيدة في أفريقيا.

 

ومنذ أكتوبر 2013، أنشأت إيطاليا قاعدة عسكرية لها في جيبوتي يعمل بها 300 موظف. وهذا يجعل إيطاليا عضو حلف الناتو الثالث، الذي انضم إلى فرنسا والولايات المتحدة، لتكون لها قاعدة في جيبوتي.

 

ودخلت الدول الآسيوية على خط المنافسة وأنشأت مواقع عسكرية في القرن الأفريقي. ففي يوليو 2011، افتتحت قوات الدفاع الذاتي اليابانية قاعدة عسكرية لها في جيبوتي. وهي أول قاعدة يابانية لمدى طويل الأجل، إذ أنها تضم ​​600 عضو من قوات الدفاع الجوي اليابانية.

 

وفي عام 2017، افتتحت الصين أول قاعدة عسكرية صينية في الخارج، بتكلفة قدرها 590 مليون دولار. ويشرف على هذه القاعدة الأسطول البحري للجيش الصيني. وبحسب بكين فإن اختيارها لجيبوتي، يهدف إلى دعم عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة وإجلاء رعايا وتأمين مواكبة بحرية للتصدي للقرصنة، غير أنها تؤكد الأهمية الاستراتيجية التي توليها الصين لأفريقيا.

 

يدفع تسابق القوى الإقليمية الكبرى على تركيز قواعد عسكرية لها في جيبوتي إلى التساؤل: لماذا كل هذا الوجود العسكري الهائل في منطقة شمال شرق أفريقيا؟

 

تقوم جيبوتي باستضافة وتأجير الجيوش الأجنبية لدوافع اقتصادية حيث توفر لها أكثر من 300 مليون دولار من الدخل السنوي. وبالنسبة إلى دول الناتو، فإن وجودها في جيبوتي يوفر الأمن البحري وقاعدة لمكافحة التهديدات الإقليمية، على الرغم من أن أعمال القرصنة قبالة سواحل الصومال انخفضت بشكل حاد من 2012 إلى 2017.

 

وبينما تشترك اليابان والصين في هذه المخاوف الأمنية، تسعى بكين إلى دمج جيبوتي كمركز تجاري إقليمي رئيسي في مبادرة الحزام والطريق.

 

وتعتبر الصين المصدر الأساسي لأفريقيا من حيث الاستثمار الأجنبي المباشر. كما أنها أكبر شريك تجاري لأفريقيا. وفي عام 2015، سبق أن أشارت بكين أنها ستستثمر 60 مليار دولار في مشاريع البنية التحتية هناك.

 

لكن الاستثمارات الصينية تثير أيضا انتقادات متزايدة من الغرب الذي يشير إلى ارتفاع مديونية بعض الدول الأفريقية بشكل كبير ما يثير قلق صندوق النقد الدولي أيضا.

 

وبحسب المكتب الأميركي فإن مبادرة الأبحاث الصينية- الأفريقية، التابع لجامعة جونز هوبكنز في واشنطن، أقرضت الصين أفريقيا ما مجموعه 125 مليار دولار بين العام 2000 و2016، الأمر الذي يجعل الديون الصينية لأفريقيا بمثابة فخ يمنح المصالح الصينية فرصة للتمدد أكثر بمنطقة القرن الأفريقي.

 

وبدأت جيبوتي في يوليو الماضي المرحلة الأولى من منطقة التجارة الحرة التي تبلغ تكلفتها 3.5 مليار دولار والتي تمتلك فيها مجموعة شركات تشاينا ميرشانتس غروب الصينية وهيئة داليان بورت أوثوريتي حصة.

 

واقترضت جيبوتي ما يقرب من 957 مليون دولار من بنك التصدير والاستيراد الصيني لتمويل عدة مشروعات، وهو مبلغ كبير مقارنة بجميع الاستثمارات الأجنبية المباشرة الأخرى. وفي الوقت نفسه، يبلغ إجمالي ديونها 84 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، ومعظمها يؤول إلى الصين.

 

لا شك أن مستقبل جيبوتي يتسم بالكثير من المخاوف رغم التدافع الإقليمي عليها بسبب ما تعيشه من متاعب مثل الفقر والإرهاب والهشاشة السياسية، على غرار تأثير توترات القوة العظمى المتصاعدة.

 

ومن المحتمل بشكل متزايد أن تشهد جيبوتي كبقية دول القارة الأفريقية مرة أخرى بعض الأحداث المهمة، ولا سيما بعد أن تراجعت الولايات المتحدة، في عهد الرئيس دونالد ترامب،عن التمسك بأجندة ليبرالية منفتحة على العالم واختيار الرئيس الأميركي سياسية انعزالية لا تُعطى فيها الأولوية إلا للمصالح الأميركية.

 

وأثارت هذه التوجهات توترات غير مسبوقة مع الصين بلغت درجة إعلان القوتين عن حرب تجارية متبادلة ولن تكون جيبوتي بمنأى عن صراع النفوذ المحموم بين واشنطن وبكين.

 

ومع التوسع العسكري الصيني الخارجي والدعوة إلى نظام عالمي جديد يتمرد على نظام القطب الواحد الذي تتزعمه الولايات المتحدة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي من خلال تأسيس نظام متعدد الأقطاب من ضمنها الصين، قد تصبح منطقة جيبوتي المزدحمة نقطة تصادم في محاولات “تدافع على أفريقيا” جديدة. وسيسعى أصحاب القواعد العسكرية في جيبوتي، وخاصة الصين، التي ستخسر أكثر من غيرها، إلى حماية استثماراتهم في البلاد.

 

صحيفة 

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية