برز في العقود الأخيرة ما يمكن وصفه بالظاهرة الإيرانية كعامل سلبي، وأكثر من ذلك عدائي، ينال من استقرار المنطقة العربية القريبة من مركز الظاهرة، الدولة الإيرانية.

 

ولعل من القصور تفسير السلوكيات الإيرانية تجاه الجيران العرب تحت العنوان السياسي، الذي لا يستحق الكثير من العناء لإيجاد مقاربات تخدم العرب والإيرانيين في ذات الحين.

 

ولا نتجاوز الحقيقة إذا أرجعنا الظاهرة الإيرانية -الفارسية- إلى خلفية ثقافية حاكمة ومؤثرة في المظهر السياسي، وإن كان ما يتبدى في سياق التتبع التاريخي من خفوت تأثير الخلفية الثقافية فليس إلا بسبب توافر الظروف أو تضاؤلها. 

 

والواقع أن الثقافة المخزونة في الذهنية والنفسية الفارسية لقيت تحديا حقيقيا من الإسلام كدين وحامل بذور ثقافية تغاير أساساتها، أساسات ثقافة الفرس، وتتميز بقوتها التأثيرية الجارفة النابعة من الحافز الديني، خلافا لتحديات سابقة كاليونانية أمكن التحكم في مسارات تدفقها، فكان أن طور الفرس، بوعي أو بدون وعي يتحرك بحافز اللا شعور الجمعي، وسائل مقاومة سعت لتصدر المشهد الإسلامي بهدف رعاية البذور الثقافية الإسلامية الناشئة وتدويرها داخل الخلفية الثقافية الفارسية لإنتاج نسخة فارسية للإسلام ككل، إلى جانب ما يمكن بثه في محاولات تطوير مستقل للثقافة الجديدة وفق الموجهات الدينية الإسلامية الأصيلة وبواسطة الجهد العربي، الناقل الأول للرسالة الإسلامية.

 

وفي الجدارية الثقافية تقف عقدة التفوق الفارسي حيال العرب وإلباسها مبالغات استعلائية للهوية الفارسية خلقت وعياً زائفاً ليس لدى الفرس فقط، وإنما عند بعض العرب، بكون مناطق عربية بسكانها تشكل مجالات نفوذ فارسي تقليدي منذ فترات الصراع الروماني الفارسي، ولهذا يجب أن تعمل الدول الإيرانية أياً كان توجهها أو أيديولوجياتها الحاكمة على إبقاء الشرق العربي تحديداً في نطاق التبعية الفارسية.

 

نحاول في هذا الملف التناول العاجل لقضايا ثقافية كامنة وراء طبيعة العلاقات العربية الفارسية، ونتوخى مسارها بشكل رئيسي في الإطار الإسلامي، وما تركته من ملامح ثقافية، ومن تداعيات سياسية على المنطقة منذ بداياتها إلى الوقت الحاضر، سواءا عبر المركز الفارسي الإيراني أو بواسطة الأذرع وردود الفعل، متطرقين إلى مسائل سياسية ذات جدل، من أهمها العلاقات الإيرانية الأمريكية الإسرائيلية، ودور حزب الله، وقصة القاعدة وداعش -أما الحوثيون فربما نفرد لحركتهم ملفا خاصا- وما لذلك من إسهامات في رسم اللوحة العربية في الفترة الراهنة.   لا نتستهدف هنا كشف جديد، وإنما إعادة لفت نظر ذاكرة بعض المستمتعين العرب بالصلاة نحو القبلة الإيرانية.

 

في البدء، من المناسب الإشارة إلى أن التطرق لتصنيف الهويات لا يعني بأي حال التقسيم العرقي لأن هذا النوع لا يصمد أمام الحقائق العلمية ولا حتى الواقع التاريخي، ولذلك فالحديث عن فرس أو إيرانيين لا علاقة له بالأبعاد العرقية، رغم ما توحيه اللفظتان من انحدارات سلالية من القبائل الفارسية أو الآرية، والأمر ذاته بالنسبة للعرب. كما لا تقتصر هذه المفاهيم على البعد الثقافي المحض، مع ما يمثله من عامل حاسم في تشكيل الهوية باعتبارها في جوهرها سلوكيات للتعاطي مع الذات والآخر نابعة من رؤى أساسية للعالم تراكمت عبر الأجيال، وأسهمت في تأليفها عوامل دينية وتاريخية ولغوية وجغرافية، ولتكتمل الهوية لابد أن يرافقها الوعي بها، وكثيراً ما يكون هذا الوعي زائفاً وواهماً، مثل ماهو في الحالة الفارسية أو الإيرانية، متضخم الأنا مع أن الوقائع التاريخية تدحضه.

 

فمن حيث العمر الزمني تتضاءل الحضارة الفارسية أمام حضارات العراق ومصر.

 

ومن حيث الناتج الحضاري، فعدا بعض تقاليد دبلوماسية، وآداب البلاط، وقليل من الآثار المادية، تتصاغر حضارة الفرس مرة أخرى في وجه ماخلفهه سكان الرافدين والمصريون من آثار وتأثير وما قدمه اليونانيون من علوم، أو الهنود من حكمة، أو العرب الجنوبيون والفينقيون من بذور الكتابة الأبجدية وتزويج اللفظ المنطوق بالحرف المكتوب وانتشاره وتأثيره في ازدهار العلوم والمكونات الحضارية وتناقلها بين شعوب العالم وأجياله.

 

إذن، طالما والعطاء الحضاري للفرس كان متواضعاً لدرجة أنه حتى الديانة الزرادشتية ظلت ديانة غير تبشيرية خارج المجال الفارسي، فما الذي ساعد الفرس على تضخيم هويتهم سواء من قبلهم أو من نظرة البعض إليهم؟

 

يمكن تلمس الجواب في ثلاثة مواقع رئيسية، اليهود، اليونان، والعرب.

 

من المصادفات التي خدمت الفرس ظهور كورش مؤسس الإمبراطورية الفارسية أثناء الأسر البابلي لليهود، فحدث لدى توسعه أن قضى على الدولة البابلية الثانية في القرن السادس قبل الميلاد، وأطلق سراح اليهود وأعاد لهم وضعهم في فلسطين، ما جعله بطلاً في نظر اليهود، استحق أن يفردوا له عبارات في آيات من أسفار، أخبار الأيام الثاني، وعزرا، وإشعيا،   ودانيال، إضافة لروايات تاريخية تشير إلى أن نبي الفرس زرادشت تلقى تعليماً من أحبار اليهود في فلسطين، إلى جانب تعليمه الهندوسي.

 

ومنذ المراحل الأولى للإمبراطورية دخل الفرس في تفاعل مع اليونانيين عبر المرتزقة اليونان الذين ضمتهم الجيوش الفارسية، ومن خلال حروبهم في القرن الخامس قبل الميلاد مع اليونانيين، ثم اكتساح فارس من قبل الإسكندر المقدوني الذي كان معجباً بتقاليد البلاط الفارسي، ولأن اليونان كانوا وقتها أهم الشعوب المنتعشة حضارياً فقد أعطوا الفرس حيزاً من كتاباتهم، لدى تأريخهم لبلدهم وحروبها مع الفرس، الإمبراطورية الأهم وقتها.

 

ولعلنا لا نجهل ما للتراث اليهودي واليوناني من تأثيرات لاحقة على ثقافات البحر المتوسط وما جاورها حتى العصر الراهن، بما يفرده هذا التراث من مكانة للفرس.

 

وكان للعرب دور في تضخيم الفرس، نظراً لبروز القوة الفارسية في طور التشتت والتراجع في جنوب الجزيرة العربية، وفي مراحل ضعف المنظومة الحضارية السامية، التي يؤلف العرب أحد مظاهرها، ثم ما تلا ذلك من خضوع القبائل العربية في العراق وعلى ضفتي الخليج العربي للنفوذ الفارسي، ما أدى – وهذا أمر طبيعي – إلى تكون وعي استعلائي للفرس تجاه العرب، تعزز بحقد أوجده الانهزام السياسي والعسكري أمام جحافل العرب الإسلامية في النصف الأول من القرن السابع الميلادي، ولأن العرب انطلقوا وقتها نحو فارس بالإسلام كدين فقط، لما يتشكل بعد كثقافة فقد أعاد الفرس ترتيب أوراقهم للرد على هزيمتهم من العرب المسلمين، من خلال الدخول بقوة في غزو الثقافة العربية الإسلامية الناشئة، الأمر الذي نلحظه في صورة الأكاسرة في الكتابات الإسلامية التاريخية والأدبية.

 

هذه العوامل أسهمت في نفخ النظرة الاستعلائية للفرس حيال العرب، أما لماذا العرب تحديداً، فبسبب ندية اليونان والرومان بمقابل تبعية عربية.

 

فنشأة وتطور الحضارة أو الثقافة الفارسية كان في ظل ذروة العطاء الحضاري اليوناني إضافة إلى أن الهزائم التي تلقاها الفرس من اليونان والرومان خصوصاً على يد الإسكندر الكبير، وتراجان الروم ثم تجاوزها وإعادة لملمة الدولة الفارسية، جعلهما في الذهنية الفارسية ندين، أما حضارات الشرق الهندية خاصة، والصينية فلم تكن مجالات احتكاك سياسي وعسكري مهم. بالموازاة صادف النشوء والتقدم الفارسي ضعفاً إجمالياً في الفعل الحضاري العربي، والسامي عموماً، وارتباط الشخصية العربية بالبداوة إبان تلك الفترة، ومن ثم قضاء العرب المسلمين على الدولة الفارسية وسقوط الكسروية نهائياً، وعدم التمكن من استعادة المجد الآفل مجددا وما تركه من آثار سلبية عميقة على الشخصية الجمعية الفارسية، قوامها البغض ورغبة الثأر من العرب، ومن كل ما له صلة بهم.

 

سلسلة حلقات تنشرها وكالة 2 ديسمبر من ملف بعنوان (السرطان الفارسي) – الحلقة الأولى

أخبار من القسم

تطورات الساعة

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية