انتهينا في المقال السابق إلى القول إن عملية الوصول الميثاق الوطني استغرقت جهودا مستمرة طوال، والغرض منه أن يصبح دليل عمل، وتساءلنا: من سينزله إلى الفضاء الاجتماعي العام؟ أو ما هي الجهة التي سيتعين عليها وضعه موضع التطبيق؟ 
 
في الحقيقة إن الرئيس علي عبد الله صالح كان يسعى من خلال المؤتمر الشعبي العام، إلى منح الميثاق الوطني شرعية وطنية، وفي الوقت نفسه ملء الفراغ السياسي أو تكوين تحالف سياسي له هيكلية تنظيمية واضحة، وتعبر الأحزاب من خلاله عن آرائها وتشارك في السلطة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان إيجاد مثل هذا التنظيم في الشمال، ضرورة بالنسبة لصنعاء لتتوافر على تنظيم سياسي مواز لما هو موجود في عدن، وليشارك في الحوار وللتفاوض في كل ما يتصل بإعادة تحقيق الوحدة اليمنية، إذ إنه بموجب نص المادة التاسعة من بيان طرابلس الذي وقع عليه رئيسا وزراء حكومتي الشمال والجنوب بتاريخ 26 نوفمبر 1972، يتعين إنشاء تنظيم سياسي موحد يضم جميع فئات الشعب اليمني(15)، وتشكيل لجنة مشتركة لوضع النظام الأساسي لهذا التنظيم الذي سيتولى السلطة بعد إعادة تحقيق الوحدة..
 
ففي عدن كان هناك تنظيم سياسي يتولى السلطة منذ الاستقلال عن بريطانيا، وذلك التنظيم هو الجبهة القومية، ثم "التنظيم السياسي الموحد- الجبهة القومية"، وأخيرا الحزب الاشتراكي اليمني، بينما في صنعاء لم يكن هناك أي تنظيم سياسي، حيث أن الدستور الذي وضع عام 1970 كان يحظر تكوين الأحزاب والنشاط الحزبي، وكان الرئيس القاضي عبد الرحمن الإرياني قد حاول- بعد صدور بيان طرابلس 1972-  إيجاد مثل هذا التنظيم فأعلن بداية عام 1973 تكوين تنظيم سياسي باسم الاتحاد اليمني، ورغم أن التنظيم شكل رسميا إلا اأه كان عديم الفعالية نظرا لعدم قدرته على القيام بوظيفته في ظل هيمنة القوى التقليدية على السلطة، ولم تكن له هوية محددة أو برنامج عمل سياسي أو مرجعية فكرية، وقد ألغي هذا التنظيم بعد تولي الرئيس إبراهيم الحمدي السلطة في 13 يونيو1974..  وطوال تلك الفترة كان الشطر الشمالي من اليمن يفتقر إلى نهج سياسي محدد المعالم وإلى تنظيم سياسي تشارك من خلاله مختلف التيارات السياسية والفكرية في إدارة شئون الدولة، والتعبير عن نفسها، وقد عمل الرئيس علي عبد الله صالح على سد هذه الثغرة.
 
لذلك لم ينفض المؤتمر الشعبي العام، بعد استنفاد مهمة مناقشة وتعديل مشروع الميثاق الوطني وصياغته النهائية، والموافقة عليه أو إقراره.. فقد طرح الرئيس علي عبد الله صالح السؤال الكبير: ماذا بعد إقرار هذه الوثيقة الوطنية؟ ما هي الهيئة أو الأداة أو الآلية التي سيتم بها وضع الميثاق الوطني موضع التطبيق في الواقع العملي؟ هذه القضية تفسر استمرار فترة المؤتمر العام للمؤتمر الشعبي العام من 24 إلى 29 أغسطس 1982.
 
لقد جرى بين المشاركين نقاش طويل حول أسلوب العمل السياسي أو الأداة التي ستطبق الميثاق في الواقع العملي، وفي النهاية استقر المشاركون على الفكرة التي قدمها الرئيس، وهي أن المؤتمر الشعبي العام الذي هو عبارة عن تجمع مؤقت لإقرار الميثاق الوطني، ومقدر له أن ينفض بمجرد هذا الإقرار، ينبغي أن يستمر بنفس المسمى: المؤتمر الشعبي العام.. ليصبح التنظيم السياسي الحاكم في شمال اليمن، ويكون الميثاق الوطني دليله النظري.. ومن هنا بدأت عملية تحويل هذا المؤتمر من تجمع مهمته إقرار مشروع الميثاق وينتهي دوره عند هذه المرحلة إلى تكتل سياسي، أو تنظيم سياسي محكوم بنظام أساسي ولوائح تنظيمية، وبرنامج عمل، سيتم إعداده على ضوء نصوص الميثاق الوطني، وحسب المتطلبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والعسكرية للبلاد.
منذ ذلك التاريخ (تاريخ تأسيس المؤتمر الشعبي يوم24 أغسطس 1982) ارتبط اسم المؤتمر الشعبي العام بكل تقدم تحقق للمواطنين في شمال اليمن قبل الوحدة، في شتى مجالات التنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي والتعليم والصحة والحريات العامة، وغيرها من المكتسبات الوطنية، وكان له ولقيادته العليا الدور الأكبر في تحقيق الوحدة اليمنية يوم22 مايو 1990، من خلال شراكته التاريخية إلى جانب الحزب الاشتراكي اليمني.. وبعد تحقيق الوحدة حتى العام 2011 كاد يكون الحزب الوحيد الذي وضعت على عاتقه قضايا التنمية الاقتصادية والاجتماعية وحماية التجربة الديمقراطية في حين تحولت الأحزاب الأخرى إلى مظاهر للإعاقة والهدم، وهذا ما يفسر جاذبيته الجماهيرية، حيث ظل  حزب الأغلبية الذي كرر الشعب تجديد ثقته به في كل المحطات الانتخابية الرئاسية والنيابية والمحلية، ومن الغرابة أن تكون جاذبيته هذه غير مفهومة أو موضوعا للمكابرة.
 
لقد كان المؤتمر الشعبي العام – في بداية الأمر- تنظيما سياسيا حاكما في شمال اليمن، أو قل إطارا سياسيا انتظمت داخله كل الأحزاب التي كان الدستور يحظرها في ذلك الوقت وإلى حين قيام دولة الوحدة اليمنية عام 1990، وقد نجح في تجاوز أبرز التحديات المتعلقة بقضية استمراريته عقب الوحدة خصوصا بعد أن خرجت منه القوى السياسية التي كانت تحت مظلته، وأعلنت عن نفسها كأحزاب مستقلة بفضل التعددية السياسية التي ضمنتها الوثائق السياسية للدولة الجديدة..  وخلال الفترة الممتدة من أغسطس1982 إلى ما قبل أزمة 2011 التي أفضت إلى الحرب الدائرة اليوم، حافظ المؤتمر الشعبي العام على عقد مؤتمراته العامة بانتظام باستثناء حالتين لهما أسبابهما القهرية.. وفي الجملة يعد المؤتمر الشعبي أكثر الأحزاب السياسية في اليمن انتظاماً في عقد مؤتمراته العامة، وهو الانتظام الذي يعد في مفاهيم الأعراف السياسية أحد أهم وأبرز عوامل قوة وصلابة أي تنظيم سياسي في أي بلد.
 
على أن هناك بعض الأساطير التي يرددها كثيرون حول المؤتمر الشعبي العام، ينبغي أن نقف عندها قليلا، ففيما كانت التوقعات تذهب إلى أن النظام الديمقراطي التعددي  بعد الوحدة سيؤدي إلى انهيار المؤتمر وبروز القوى السياسية الأخرى، نجح في أن يتحول إلى أكبر وأقوى الأحزاب السياسية في البلاد وهو ما ظهر مع أول تجربة انتخابية شاهدها اليمن الموحد وهي الانتخابات النيابية في العام 1993.. وظل خصوم المؤتمر يلوكون الأسطورة الأخرى القائلة إن المؤتمر الشعبي حزب سلطة، يستمد قوته من المال العام والوظيفة العامة والإعلام الحكومي، وأيضا من السمعة الحسنة لرئيس الجمهورية علي عبد الله صالح الذي كان يترأس المؤتمر في الوقت نفسه، وأن المؤتمر سوف يتضعضع بمجرد فقده مكامن القوة هذه، لكن هذه الأسطورة سقطت أيضا، فقد ترك الرئيس صالح الرئاسة أواخر العام2011، وأقصيت قياداته من حكومة باسندوة وحتى اليوم، ومع ذلك ظل المؤتمر قائما وقويا، حتى بعد أن هجرته بعض قياداته في العامين 2011 و2015، وحتى بعد تعرضه للانقسام بفعل الحرب، وحتى بعد أن  اغتالت الجماعة الحوثية الخؤونة رئيسه ومؤسسه الخالد علي عبد الله صالح.

أخبار من القسم

تطورات الساعة

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية