لأشياء كثيرة مهمة تتعلق بتجليات ظاهرة "الانقلاب" في التاريخ السياسي للعالم، ومفهوم مصطلح "الانقلاب" في الثقافة السياسية المعاصرة، واختلاف "التجربة الحوثية" جذرياً عن المظاهر والظواهر التقليدية للانقلاب.. يمكن القول: إن أهون ما يمكن إطلاقه على ما فعله الحوثيون في اليمن هو صفة "الانقلاب".
 
يشبه الأمر إطلاق صفة "الاستعمار" على اجتياح "التتار والمغول" للعالم، ومحاولة إبادة البشرية. "الاستعمار" حالة غير مقبولة، لكن يمكن التعايش معها، كذلك "الانقلاب". لطالما رفضت الشعوب عمليات انقلاب، ثم تعايشت معها.
بل بات للانقلاب، في الثقافة السياسية المعاصرة، مفاهيم تطبيعية ناعمة، واستناداً على استقرائه لتاريخ الانقلابات في العالم، يرى "كورزيو مالابارتي" في كتابه المميز "تقنيات الانقلاب" "1930م"، أن الانقلاب ليس إيجابياً أو سلبياً بذاته، بل بما يترتب عنه على أرض الواقع من متغيرات، مع أو ضد رغبة ومصالح غالبية فئات الشعب.
 
بمعنى لم يعد الانقلاب شراً محضاً يهدد حرية واستقرار الشعوب بالضرورة، في ظل حقيقة أن بعض الانقلابات، أسقطت أنظمة شمولية، وحققت الاستقرار، وأفضت إلى نوعٍ من الديمقراطية، وسلطات مدنية منتخبة.
 
كما لم يعد مفهوم الانقلاب مقتصراً على الوسائل المسلحة، وبات يشمل -حسب "مالابارتي"- "حتى القوى المدنية، التي تشارك أيضاً من خلال زعزعة استقرار الحكومة بإجراءات تهدف إلى خلق حالة من الفوضى الاجتماعية تمكّن وتبرر في وصول الانقلابيين إلى السلطة".
 
يمكن بهذا الاعتبار، إدراج أحداث 2011 في اليمن، ضمن دائرة "الانقلاب"، أما الاجتياح الحوثي فلا يمكن النظر إليه إلا باعتباره سابقة كارثية من نوعه، في التاريخ الحديث للانقلابات، في اليمن والمنطقة.
 
"الانقلاب" حالة معهودة مألوفة في تاريخ العالم، وفي تاريخ اليمن، القديم والحديث.. في كل مرة. كان "الانقلاب" يسيطر على السلطة، ويتمسك بالجيش والدولة، ويحافظ على علاقته مع الشعب، ولو بالحد الأدنى المعقول.
هذه المرة الأمر مختلف. مختلف جوهرياً لدرجة أنه بحاجة إلى مصطلح جديد يعبّر بدقة عن حيثياته:
كانت مشكلة الانقلابات السابقة، سياسية دائماً، وإيديولوجية أحياناً، بينما "المشكلة الحوثية" سياسية أيديولوجية دينية طائفية عنصرية، مدنية حضارية وجودية..!
 
كانت مشكلة الانقلابيين السابقين، مع السلطة، بينما مشكلة الحوثيين، مع السلطة والمعارضة، والنظام والشعب والثقافة والمجتمع، والماضي والحاضر، والداخل والخارج.!
 
في كل مرة كان زعيم الانقلاب يتجه إلى القصر الجمهوري، بنفسه كرئيس ومسئول مباشر، ويحكم من هناك من خلال مؤسسات الدولة، متكئاً على الجيش باعتباره عماد كل الانقلابات والسلطات السابقة.
 
هذه المرة أرسل زعيم الانقلاب أحد قفازاته إلى القصر الجمهوري، وظل في الكهف -كمرجعية فوقية غير مسئولة ولا مباشرة- يتحكم بالأمور من خارج الدولة، بمشرفين ومليشيات دينية هي عماد هذا الانقلاب.
 
هذه المرة -وبما يليق بانقلاب شمولي شامل فريد من نوعه- لم يكتفِ الحوثيون بالاستحواذ على السلطة، بل قاموا بتدمير مؤسسات الدولة، والقوات المسلحة، ثم توجهوا بكل قوة وإصرار وترصد لاستهداف الشعب من خلال:
- الاستئثار العنصري السلالي بالسلطة والثروة والوظيفة العامة والمركز الاجتماعي.. 
- مضاعفة الجبايات، والتخلي عن الالتزامات.
- التجهيل والتجويع والتخويف..
- النزعة الطبقية، وتفتيت الوحدة الوطنية، وتمزيق النسيج الاجتماعي.
- تحويل المواطنين إلى رعية، والرعية إلى خدم وأبواق ووقود للحروب.. إلخ إلخ إلخ.
 
هذه النزعات والتوجهات والممارسات الفاشية تؤكد أن الحوثيين ليسوا أول من انقلب على السلطة، لكنهم أول من انقلب على المجتمع والشعب والإجماع الوطني.. أول من انقلب على منطق "الانقلاب" نفسه.!
 
يُفترض بالتالي أن يكون هناك مصطلح مناسب يعبر عن حقيقة هذا التسونامي الذي تم اختزاله في مجرد "الانقلاب". الذي يضر بالقضية اليمنية، ولا يدين الحوثيين، وعلى العكس يخدمهم، ويطبع المشكلة اليمنية، كمشكلة واردة وعادية، نظرياً وعملياً، على كافة الأصعدة.
 
على الصعيد المحلي. اليمن معتادة على الانقلابات، وعلى الصعيد الدولي القضية نسبية، "الشرعية" ليست مطلقة وأبدية، ولا يتعلق الصراع حولها بالحق والباطل، بل بالسيطرة على الأرض، والتأثير على الواقع، وإدارة شئون ومصالح المواطنين.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية