"منذ سبعة أعوام، وأنا أقضي حياتي على الفراش.. مُستسلم أمام الإعاقة".. بهذه المفردات يصف رشاد محمد، 40 عامًا، حياته الجامدة، وأيامه البائسة، واستسلامه الواضح أمام إعاقته الجسدية.. سبعة أعوام من البقاء مُقعدًا على الفراش، فاقدًا إحساسه بالمحيط، مشلول الحركة، وغير قادر على النهوض، حيث يكتفي الرجل بلسانه لتوصيف حالته، أما نظرات عينيه، ودموعه فقد تكفلت بالكشف عن حجم حزنه وتأثره.
 
قبل بدء حرب الحوثيين المتواصلة على الشعب اليمني، كان يسكن رشاد في بلاد الوافي، إحدى القرى التابعة لمديرية جبل حبشي، غرب مدينة تعز، حيث يعمل مدرسًا لمادة اللغة العربية منذ سنوات، واعتاد الذهاب يوميًا إلى طلابه في المدرسة الثانوية بالمنطقة، من أجل تأدية واجبه التربوي؛ وعلى الرغم من اجتياح مليشيا الحوثي للمدينة، وحصارهم العديد من المناطق هناك؛ إلا أن الرجل استمر في مهمته.
 
يشرح المعلم، تفاصيل الحادثة لـ"2 ديسمبر": "في بداية الحرب، وحصار الحوثيين لمنطقة بلاد الوافي، كان البعض يمتنع عن التدريس لخطورة الوضع، إلا أن ضميري لم يسمح لي بالبقاء في المنزل.. كنت أخرج من البيت، باعتباري مواطنًا مدنيًا، بعيدًا عن الجبهات والقتال.. في أحد الأيام أنهيت الدوام، وغادرت متجهًا إلى منزلي.. لكن رصاصة قناصة الحوثي أصابتنا على بعد أمتار من المدرسة".
 
يضيف للوكالة: "أصابتني طلقة القناص بالعنق، لتخرج من الحبل الشوكي.. وقتها لم أدرِ ما الذي حدث، كنت خائفًا وأنا أشاهد الدماء تخرج من عنقي.. سقطت على الأرض مباشرة ولم أستطع الحركة أو الزحف، أتذكر قدرتي على الصياح بصوت باكٍ ومتقطع..". وتابع: "الطلاب سمعوا صراخي، وجاءوا مسرعين برفقة أبناء القرية، وزملائي في هيئة التدريس.. قاموا بإسعافي حملًا على الأكتاف لمسافة طويلة إلى الشارع الرئيس ثم نقلونا إلى أحد مستشفيات المدينة".
 
أن تخرج من منزلك، ماشيًا بقدميك، وبكامل قواك، لتعود بعدها محمولًا على الأكتاف إما مقنوصًا أو مقتولًا، فذلك هو الوجع- حد تعبيره- وتلك هي النتيجة التي عاد بها رشاد إلى أسرته بجسد يعاني من انهيار كامل، وشلل كلي، إضافة إلى ضربة في الحبل الشوكي وتآكل في العمود الفقري، ومضاعفات كثيرة تتطور على حساب صحته الجسدية والنفسية.
 
الحصار والتهجير
 
بعد أشهر من العلاج في مستشفيات تعز، عاد رشاد إلى قريته، لكن مليشيا الحوثي لم تكتفِ بتحويل الرجل إلى مُقعد على فراش الموت، ففي الأشهر الأولى من العام 2017، سعت إلى حصار مئات المدنيين في هذه المنطقة الريفية.. يتذكر: "بداية الأمر، سيطر الحوثيون على المرتفعات الجبلية المحيطة، وتمركزت القناصة في منطقتي العنين والصراهم، ومن هناك بدأوا أعمال قنص وقتل الأبرياء والمدنيين.. عندما تخرج امرأة أو طفل لجلب الماء فإنه لا يعود.. عشرات الضحايا فارقوا الحياة، والكثير من أهالي القرية أُصيبوا أثناء حصار القناصة".
 
من القنص انتقل مقاتلو الحوثي، آنذاك، إلى حصار العديد من قرى عزلة بلاد الوافي، حيث تفيد المعلومات بأن ما يزيد عن 12 قرية تعرضت للحصار من خلال قطع الطرق والمنافذ الرئيسة، كما جرى حرمان ومنع السكان المحليين من ممارسة حياتهم اليومية، أو جلب احتياجاتهم من الغذاء والدواء، وعدم السماح لهم بإسعاف المصابين.
 
جاء هذا التضييق المتعمد، بجانب إعلان مليشيا الحوثي لهذه القرى بمثابة منطقة عسكرية، يحظر على المدنيين البقاء فيها، لذا اضطرت غالبية الأسر إلى النزوح، عبر طرق وعرة، وتحت تهديد قناصة الحوثيين.. يؤكد رشاد: "كانت الأسر تقطع مسافات طويلة، تصل إلى 5 كم مشيًا على الأقدام، ليتمكنوا من الخروج ومغادرة القرى بسلام.. هذا يحمل أشياءه على ظهره، بينما الثاني يعجز عن حمل احتياجاته.. مجبرون على النزوح، وترك ممتلكاتنا في البيوت".
 
أسرة رشاد، انتقلت إلى المدينة، بعد تهجيرها قسرًا من قبل الحوثيين، وتسكن اليوم في منزل صغير وسط تعز معتمدة على راتب المعلم المقعد، الذي لا يكفي لشراء احتياجاتهم اليومية، وتكاليف دراسة الأطفال ودفع إيجار مسكنهم المتواضع.. سبعة أعوام، من عمر الإعاقة والنزوح القسري، يجد رشاد حياة المدينة أكثر تكلفة، حيث يتمنى العودة إلى منزله الريفي، واستقرار أسرته؛ لكنه يجد ذلك بعيدًا عن الواقع، نظرًا لاستمرار مليشيا الحوثي بالقنص والاستهداف المباشر.
 
احتياجات
 
يحتاج هذا المُقعد، بحسب تقريره الطبي، إلى علاج طبيعي، والسفر إلى الخارج لتلقي العلاج اللازم والجرعة الكافية من التدريب اليومي لجسده المشلول؛ لكن الرجل لا يملك تكاليف السفر، والحكومة لا تهتم بضحايا الحرب.. من جهتها، تقول زوجة رشاد: "زوجي بحاجة إلى علاج طبيعي في الخارج، ونحن حالتنا المادية لا تسمح بذلك.. نعيش حياة صعبة، وبالكاد نتدبر أمور حياتنا ومصاريف البيت من خلال الراتب". وتضيف: "عرضنا حالة رشاد، على طبيب في ألمانيا، قال لنا إن المريض يحتاج إلى علاج مكثف، يصل إلى تسع حصص علاجية يوميًا في مستشفيات القاهرة أو الهند".
 
ولأن الرجل غير قادر على السفر إلى الخارج، كما لا يستطيع توفير تكاليف علاجه في الداخل، نتيجة ارتفاع تكلفة حصة التدريب الواحدة في مراكز تأهيل الأطراف؛ فقد لجأ رشاد إلى الجلوس في منزله، والسماح لزوجته وأطفاله بتدريب جسده يوميًا.. هكذا يبقى رشاد بين الإعاقة، والنزوح وصعوبة ظروفه المعيشية.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية