كان زوربا صادقاً عندما قال: الإنسان همجي ومتوحش بقدر حدة أسنانه، وعندما يفقد المرء أسنانه يذهب عنه التوحش. أنا كلما بدأت حدة أسناني تذهب وجدتني أفكر أعقل مما كنت، وأنظر للأمور من منظور مختلف، وقياس عقلي يتوازن، يصبح دقيقاً، أكثر من السابق.
 
الأسنان الحادة باعثة للحمى، حمى الدم، وكما قال زوربا يأكل الإنسان، هذا الإنسان، لحوم كل الحيوانات ولا يكتفي، لا يشبع الإنسان بتاتاً إلا بلحم الإنسان، عندما يأكل انساناً يشعر أنه اكتفى، ويكتفي.
 
لو فسرنا كلام زوربا لوجدناه حقيقة ممضة، فالحروب وجدت لكي يشبع الإنسان، ولا بد للفرد أن يخوض حرباً ليكتفي من دم الضحايا ثم يتقاعد على كرسيه المزهنق ويبدأ بفخر حكاية بطولته بالقتل في معارك مجده، فالانسان عندما يكبر لا يحدث أحفاده عن مغامراته في الحب، وعن أول قبلة، أو أول هدف سدده في المرمى، بل عن الحرب، والحرب فقط، وأول سلاح تنكبه وأول انسان ثقب رأسه ببندقيته وكتبت لأجل ذلك الكتب والمذكرات، ونشرت القصص، وكل الأساطير.
 
وجد الانسان ليحارب، حياته حرب، وانتهاء الحرب انتفاء البقاء الإنساني، وكل شعب يعيش معاركه بمدى أطول أو أقصر، لغة الضحايا تحدد مدة الحرب، فأوروبا خسرت الملايين بحرب واحدة وبسياق زمني قصير جداً في حربيها العالميتين، ودفعت كلفة منطق الوجود الانساني دفعة واحدة، بمعركة فقط، ثم استراحت وذهبت تستحم بعقود من التطور والتقدم والابتكار والتحرر وحياة لامعة وبهيجة.
 
أما نحن، مشكلتنا ليست الحرب، بل مدة الحرب، كلفة الحرب وعدد الضحايا ندفعهم بمدى أطول، وما دفعته بولندا في حرب قصيرة من الحروب الكبيرة وبظرف سنوات فقط ما زالت تدفعه العراق بالتقسيط منذ سنة ثمانين والى اللحظة، سنة سنة وضحية ضحية، والعدالة السماوية حاضرة، وفي لوح القدرة أن ما عاشته العراق ليس أكثر مما عاشته بولندا، رغم أن المراقب للأمر وهو يرى بولندا بلاد سلام منذ نصف قرن بل ما يقارب قرن يستنكف هذه العدالة رغم أن بلغة العد والقياس السماوي هي هي ذات المعاناة، ذات الرقم، وذات الحرب.
 
يعيش كل شعب حروبه، ويسيل الدم من أوردة كل أمة، أما نحن فمتاعبنا ليست الحروب بل طريقة إدارتها، نظل نبكي الضحايا دمعة دمعة، هناك مسافة بين ضحية وضحية، ومعركة وأخرى، والأجدر بمعاركنا أن تكون مستعرة شديدة لاهبة تطحن المقدار الذي يجب علينا دفعه بسنة أو سنتين، ونذهب كما ذهب الذين قبلنا لكي نستريح.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية