من الطبيعي لجماعة دينية سياسية مسلحة.. انقلبت على دولة وطنية، في بلد حافل بالتعدديات والتنوعات السياسية والاجتماعية والفكرية والمذهبية.. أن تحاول تأبيد نفسها في السلطة، من خلال أجندة سياسية عقائدية شمولية، و"بروبجندا" ثقافية إعلامية، لها هدفان متداخلان: 
 
الأول: محو الوعي والقيم الجمعية المدنية، والثقافة والمظاهر الوطنية المشتركة التي ترسخت في أوساط الشعب في ظل النظام السابق.
 
الثاني: تكريس الوعي الشمولي والثقافة الكهنوتية الخاصة بالجماعة.
 
حدث هذا في إيران، كما حدث في أفغانستان، وكان يحدث بدرجات متفاوتة على امتداد التاريخ والجغرافيا، وهو ما تقوم به المليشيا الحوثية في اليمن في مناطق سيطرتها منذ انقلابها على السلطة والإجماع الوطني عام 2014م.
 
وبالذات على صعيد الأعياد والمناسبات الوطنية والدينية العامة.. من حيث ارتباطها العملي والرمزي بالوعي الجمعي للشعب، والوجدان المشترك للجماهير. المناسبات الوطنية- حسب علماء النفس والاجتماع- هي من أهم وأخطر الأدوات التي تسيطر من خلالها الأنظمة على الشعوب، وتغيرها بشكل إيجابي أو سلبي.
 
لا يتطلب الأمر بالضرورة اطلاع زعماء هذه الجماعات على نظريات فرويد وغوستاف لوبون في سيكولوجية الجماهير، ومن المؤكد أن عبدالملك الحوثي وقادة جماعته لم يسمعوا حتى بهذه الأسماء؛ فضلًا عن الاطلاع على أعمالهم؛ لكنهم بارعون بالسجية في التلاعب بعواطف وهموم الجماهير اليمنية، من خلال إشغال الشعب، واستقطابه بمناسباتهم الخاصة.
 
هذه المناسبات بالعشرات، متفاوتة الأهمية، ومتزايدة باضطراد، من ذلك على سبيل المثال: يوم الصرخة، ويوم الولاية، ويوم الغدير، ويوم عاشوراء، وميلاد الحسين ويوم استشهاده ويوم أربعينيته، وميلاد فاطمة الزهراء، وزينب، وزين العابدين، وباقر، وجعفر، وأسبوع الشهيد، ويوم الصمود، وذكرى حسين الحوثي، وذكرى "21 سبتمبر".
 على رأس هذه المناسبات الحوثية حسب قول "عبدالملك الحوثي": "ثلاث مناسبات تقلق العدو، ويسعى بكل جهد لمنعها، وهي:
1- مناسبة المولد النبوي
2-مناسبة الغدير 
3-مناسبة يوم القدس العالمي".
 
وبطبيعة الحال، هذه المناسبات ليست موجهة للعدو؛ بل موجهة أولًا وأخيرًا إلى الشعب اليمني، لاستقطابه وإدخاله تحت عباءة الجماعة، ورغم أن العملية تتضمن جمع الإتاوات، لكن الهدف يفسر النفقات الهائلة التي تستنزف بها الجماعة خزينة الدولة فيها، كما في ذكرى المولد النبوي:
 
 الجماعة الحوثية لا تحب الله والنبي كغاية، بقدر ما تجعل منهما وسيلة لحشد القاصرين والبسطاء وضعاف العقول وراء مشروعها الكهنوتي.
 
في المقابل من الطبيعي أن تحاول المليشيا الحوثية تهميش أو إلغاء الأعياد والمناسبات الوطنية والدينية الجامعة، لصالح مناسباتها الدينية والسياسية الخاصة هذه، كقيامها مؤخرًا بمنع الاحتفال بـ"ذكرى الوحدة اليمنية"، واستبدالها بـ"ذكرى الصرخة"! وقد يبدو هذا الموقف محيرًا بالنسبة لجماعة تصرح أنها مع الوحدة اليمنية، بل تلوح باستخدام القوة للحفاظ على هذه الوحدة!
 
بالنسبة للشعب اليمني، الوحدة اليمنية 1990م، هي أهم منجز وطني في تاريخ اليمن الحديث والقديم على الإطلاق، وذكرى تحقيقها هي عيد الأعياد، وأكثر المناسبات الوطنية أهمية وقيمة عملية ورمزية.
 
لكن؛ بالنسبة للجماعة الحوثية، هذه المناسبة لا تروقها لعدة أسباب:
أولًا: هي مناسبة وطنية، والمناسبات الوطنية لا تروق عادة للجماعات الدينية.
وثانيًا: هي من حيث "الوحدة الوطنية" مناسبة جامعة لكل الفئات اليمنية، والمليشيا الحوثية عمليًا ضد الوحدة الوطنية، ليس فقط بين الشمال والجنوب، بل حتى داخل كلٍّ من الشمال والجنوب، وحتى داخل كل محافظة على حدة؛ بقاؤها مرهون بهذا التمزق الفئوي الطائفي.
 
وثالثًا: هي، من حيث "الوحدة السياسية"، مناسبة عظيمة، لكن الجماعة، وحسب زعيمها عبدالملك الحوثي الذي تحدث بالمناسبة، عن قداسة الوحدة مع آبار النفط، لا ترى في الخارطة اليمنية سوى آبار النفط، ولا تهمها سوى الوحدة مع مأرب وشبوة.
 
ورابعًا: ارتبط حدث الوحدة اليمنية بأهم مكتسبات المعاصرة والتحديث على رأسها التعددية الحزبية، والحريات السياسية والإعلامية والاقتصادية؛ بينما الجماعة الحوثية، كجماعة كهنوتية شمولية، ضد كل هذه الظواهر والمظاهر الحرة المعاصرة.
 
وخامسًا: ارتبط تحقيق الوحدة اليمنية بالزعيم الراحل علي عبدالله صالح، رجل الدولة الذي شن ست حروب ضد تمرداتها العسكرية، ومن الطبيعي أن تتجاهل الاحتفال بمناسبة يبرز فيها بالضرورة فضل هذا "العدو الأكبر" لها.
 
وأخيرًا: فيما يتعلق بقيام هذه الجماعة باستبدال هذا اليوم الوطني بيوم الصرخة، الوحدة اليمنية مناسبة وطنية يمنية، وبالنسبة لجماعة تابعة- سياسيًا وأيديولوجيًا- لملالي ما تسمى "الثورة الإسلامية" في طهران، فالصرخة التي استعارتها من خميني إيران أهم من كل المنجزات التاريخية والمناسبات اليمنية.

أخبار من القسم

تطورات الساعة

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية