لا أحاول هنا الرد على أحد، وبالذات أنصار "الإمامة العائدة" الذين أزعجوا العالم كله بصراخهم بلعن إسرائيل، والموت لليهود وأمريكا، والتمسح بالقضية الفلسطينية، بينما المسألة مزايدة دعائية ذراعية فحسب، والقضية لا تخصهم فقط، بقدر ما تخص الذاكرة الجمعية في اليمن.

هناك قصة شيقة على كل حال. وتتعلق بتاجر يمني قديم اسمه الحاج "أحمد أحمد القريطي"، قليلون جداً من سمعوا بهذا الرجل، وحتى هؤلاء يعرفون القليل عن هذا التاجر اليمني الصنعاني الذي كان في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي معروفاً جيداً من قبل المنظمات الصهيونية الدولية، والنظام الإمامي البائد في اليمن، مرتبطاً في الدوائر والأوساط المعنية بتاريخ عملية "بساط الريح"، العملية السرية الشهيرة لترحيل يهود اليمن إلى إسرائيل.

يبالغ بعضهم في تقدير خطورة هذا الرجل، ويعتبره "مهندس" تلك العملية الاستخباراتية الدولية الكبيرة والحساسة، وهو ما لا يتناسب مع شخصية تقليدية بسيطة لتاجر جملة دفعت به الأقدار ليعمل كتاجر جملة أيضاً بالبشر مقابل مبلغ مجزٍ عن كل يهودي يقوم بنقله من "بلاد الإمام"، وتوصيله إلى عدن التي كانت حينها تحت الحماية البريطانية.

كانت إسرائيل، ومن خلفها أمريكا وبريطانيا، حينها ومن قبل ومن بعد، بحاجة ماسة لإعادة رسم الخارطة الديموغرافية للأرض الفلسطينية المحتلة، بترجيح عدد اليهود فيها، كتفوق سكاني يفرض الأمر الواقع، فضلاً عن حاجتها الملحّة لتفوق عسكري من حيث عدد المقاتلين، وهو ما دفع "الحركة الصهيونية العالمية"، للتخطيط لهذه العملية من خلال عدة منظمات تابعة لها، وهي بالتحديد:
- "الوكالة اليهودية لأجل إسرائيل"، وهي الجهاز التنفيذي للحركة الصهيونية العالمية.
- "الجمعية اليهودية" في عدن، التي تكفلت بالإشراف على النفقات المالية.


التقي "القريطي" في عدن بمندوبين لهاتين المنظمتين، عرضوا عليه المهمة فوافق عليها، كمقاول محلي لها، وبطبيعة الحال كان لا بد له من ضوء أخضر من "النظام الإمامي" الذي كان قد انخرط مسبقا في العملية، فتعامل "الإمام يحيى"، وبالذات "الإمام أحمد" مع مندوبي ومقاولي "الوكالة الدولية"، اليهود والمسلمين، المعنيين بترحيل اليهود، بكل أريحية وإيجابية، وقدما لهم كل التسهيلات والخدمات المادية واللوجستية.

يعني هذا أنه كان هناك مقاولون آخرون عملوا على ترحيل يهود اليمن، قبل "أحمد القريطي"، وهو كذلك، وإن كان القريطي، لمؤهلات شخصية عملية بزّهم جميعاً من حيث الالتزام والنشاط والإمكانيات والعلاقات السياسية، وبالنسبة له فقد بدت العملية صفقة تجارية سهلة ومربحة للغاية.

وبالذات لأن "الإمام أحمد" كان –لأسباب يمكن فهمها- مهتماً بشدة بهذه العملية، وحريصاً على نجاحها، فعين للقريطي جنوداً لحراسته خلال أداء عمله، كما أعطاه رسالة خطية إلى يهود اليمن، تتضمن موافقته على ترحيلهم، وتخليه عن مسئوليته تجاههم، كأمر وتهديد ضمني لهم بالرحيل من بلاده.!

حسب القريطي فقد: "لاقت المهمة رغبة الإمام أحمد، ووافق على ذلك.. وعين لي حراسة من الجنود. وتم إعلام نوابه في مختلف المناطق بمهمتي، وأمرهم بتقديم العون والمساعدة لي لإنجازها".!

خلال تأديته لهذه المهمة. قام القريطي بزيارات ميدانية مباشرة لمعظم التجمعات اليهودية في اليمن حينها، وبالمناسبة: يهود اليمن يمنيون أصلاً. لا جالية أجنبية، كحالهم في بلدان أخرى، وفي كل حال كان اليهود يقومون بمهن وحِرف صناعية وتجارية ضرورية للاقتصاد المحلي، وتجعل من خروجهم مشكلة لليمن.!

لكن الاقتصاد والتنمية كانت آخر ما يفكر به الإمام أحمد، أو القريطي الذي كان في غضون زياراته الميدانية يعرض على كل تجمع يهودي، وفي كل مرة، رسائل من "الجمعية اليهودية" تشير إلى تكليفه "بترحيلهم"، باعتبار ترحيلهم بات أمراً محسوماً، وأن إسرائيل هي الجهة الوحيدة المعنية بهم، والمتاحة لاستقبالهم.

ولاستكمال حلقة الضغط.. كان القريطي يطلعهم على موافقة الإمام على الترحيل، بما فيها من أوامر وتهديدات ضمنية، وهو ما يعني أن العملية كانت ترحيلا قسريا أكثر منها هجرة طوعية، فكثير من يهود اليمن –كما وضح القريطي نفسه- كانوا لا يريدون الرحيل، بل هدد بعضهم باعتناق الإسلام ليتنصل من هذا التهجير.!

في المحصلة: تمّ بين يونيو 1949 إلى سبتمبر 1950 ترحيل حوالي 49.000 حسب الأرقام الرسمية، وحسب القريطي فقد تمكن من نقل: 12.000 يهودي يمني، وتوصيلهم إلى عدن، ومن ثمّ تمّ نقلهم جواً على متن طائرات أمريكية وبريطانية إلى إسرائيل التي كانت العملية بالنسبة لها ذات أهمية وجودية عالية.

بالنسبة لـ"الإمام أحمد"، كانت العملية مجدية لحساباته الدينية والسياسية، وحتى الحسابات المادية الشخصية، قيل إنه استلم الثمن نقداً، وبشكل مسبق. لم يشر القريطي -خلال مقابلته المنشورة في موقع "الراية الأسبوعية" مع الصحفي "نبيل يوسف كميم"- لهذه النقطة، لكنه كان قد أدرك قذارة اللعبة، فوصف العملية كلها، بما فيها دوره فيها بالـ"خزوة".!

هذا "الخزي" أو "الخزوة"، حسب تعبير القريطي، سيظل وصمة عار خالدة في التاريخ الأصفر لذلك النظام الكهنوتي البائد، الذي ارتكب من خلال تلك الصفقة خيانة وخطيئة مركبة، فتخلى عن مواطنيه، وباعهم بثمن بخس، وسدد طعنة نجلاء للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، ومكن الكيان الصهيوني الوليد من أسباب القوة الممكنة.

على أن النظام الإمامي كسب حليفاً استراتيجياً، من خلال تلك الصفقة، فعندما قامت ثورة 26 سبتمبر المجيدة، واندلعت الحرب بين القوى الجمهورية والقوى الإمامية، وقفت إسرائيل بقوة بجانب القوى الإمامية، وما جعل التدخل الإسرائيلي أكثر أهمية في تلك الحروب أن العدو اللدود لإسرائيل مصر و"جمال عبد الناصر"، كانا حاضرين بقوة فيها، ما دفع إسرائيل لمحاولة إغراقهما في تلك الحرب.

"كانت الطائرات الإسرائيلية تحلق حينها على طول أجواء المنطقة، تلقي الأسلحة في اليمن، وتتزود بالوقود في الصومال وجيبوتي، وتعود إلى إسرائيل".. و"استمرت بتزويد المرتزقة الأوروبيين والقبائل بالأسلحة لمدة سنتين".!

أخفى الإسرائيليون مصدر تلك الأسلحة، كأمور وتفاصيل كثيرة أخرى، عن عملياتهم العسكرية تلك التي أطلقوا عليها بأنفسهم اسم "عملية النيص" بمرادفه الإنجليزي :(Operation Porcupine).
لكن المؤرخ المصري الشهير "حسنين هيكل" كتب حينها عنها، وعن كون إسرائيل:
- قامت بإعطاء شحنات من الأسلحة للمرتزقة اليمنيين والأجانب.
-أقامت اتصالات مع المئات من المرتزقة الأوروبيين الذين شاركت في جلبهم للقتال في اليمن.
- قامت بإنشاء جسر جوي سري بين جيبوتي وشمال اليمن.

مضيفاً: لقد "أعطت الحرب الفرصة للإسرائيليين لمراقبة وتقييم التكتيكات الحربية المصرية، وقدرتها على التكييف مع ظروف المعارك".

"بعد ثلاثة عقود، أكد الإسرائيليون كلام هيكل"، عن دور إسرائيل في تلك الحروب التي اتفق المؤرخون المصريون والعبريون على وصفها بـ"فيتنام مصر".

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية