عن اتفاقية مسقط وخطاب طارق صالح كمرآة!
مثلت اتفاقية مسقط للإفراج عن الأسرى والمختطفين، بما أبرزته من تبني مبدأ "الكل مقابل الكل" وقبول الإفراج عن السياسي محمد قحطان رغم غموض مصيره، لحظة كاشفة عن تحولات عميقة تتشكل في بنية المليشيا الحوثية.
هذه الخطوات تبدو للوهلة الأولى كمكاسب تفاوضية، ولكنها في حقيقتها تعكس تراكم أزمات داخلية وضغوط خارجية خانقة، وهو ما يتوافق تماماً مع تشخيص الفريق طارق صالح في خطابه الأخير بأن الحوثيين يمرون بأضعف مراحلهم ويعيشون ارتباكاً داخلياً غير مسبوق.. هذا الواقع الهش هو ما أجبر المليشيا على تبني مرونة لم تكن معهودة منها، فلم يعد التحول مجرد تكتيك مرحلي، بل هو اعتراف ضمني بالهشاشة البنيوية التي تواجه مشروعهم السلطوي السلالي برمته.
تتعامل المليشيا السلالية مع هذه التحديات المتراكمة من موقع الضعف، حيث تحول التفاوض على ملف الأسرى من مسألة إنسانية بحتة إلى منفذ استراتيجي لتخفيف الضغوط السياسية والعسكرية والاقتصادية.. فالصمود العسكري الطويل لم يترجم إلى انتصار حاسم، بينما استنزفت الحرب موارد المناطق الخاضعة لسيطرتها، مما دفع القيادة إلى تقديم تنازلات استثنائية تبدو في الظاهر مكاسب تفاوضية، لكنها في العمق مؤشر على أزمة متعددة الأوجه تحاول إدارتها لا أكثر.
وعلى الأرض، فإن تصاعد وتيرة القمع الأمني من خلال موجات الاختطافات والتجنيد الإجباري وفرض الجبايات، لا ينم عن قوة فعلية، بل هو دليل ساطع على هشاشة السيطرة وافتقاد الشرعية الطوعية.. لقد تحولت آلة القمع إلى أداة رئيسة لترسيخ سلطة تهتز تحت وطأة الرفض الشعبي المتصاعد والانقسامات الداخلية، وهذا الأسلوب الأمني الثقيل ينم عن خوف عميق من انفجار داخلي أو انهيار في السيطرة الاجتماعية، وهي المخاوف التي تفسر ذلك "الارتباك غير المسبوق" الذي أشار إليه الفريق طارق صالح.
كما تكشف التقارير التحليلية عن صراعات خفية وعلنية، ولكنها ضارية داخل شبكات الولاء والقيادات الداخلية التابعة للمليشيات، تتمحور حول السيطرة على الموارد والمناصب والنفوذ.
هذه التنافسات الداخلية تضعف ما تسمى بالسيطرة المركزية وتجعل عملية صنع القرار أكثر تشتتاً وأقل تجانساً، مما ينعكس سلباً على موقفهم التفاوضي ويجعلهم أكثر استعداداً للمساومة في ملفات معينة، كمحاولة لتحقيق استقرار داخلي مؤقت أو تحويل الأنظار عن أزماتهم البنيوية العميقة.
وقد أدت الفترات الطويلة من حالة الاشتباك المستمر، مع عدم القدرة على حسم الحرب لصالح أي طرف، إلى إجبار المليشيا ـ برأيي ـ على إعادة تقييم أولوياتها الاستراتيجية في ظل ظروف بالغة التعقيد.. الهدن المتكررة، والواقع الاقتصادي المنهك، والضغوط الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، خلقت بيئة تدفع نحو البحث عن مخرج، حتى لو كان مؤقتاً.. وعلى سبيل المثال - المساومة في ملف تبادل الأسرى- تقدم لهم فرصة لتخفيف الأعباء الداخلية وتلميع صورتهم الخارجية، وكسب وقت ثمين لإعادة ترتيب أوراقهم المتخبطة في مرحلة يصفها المراقبون بأنها الأضعف في مسيرتهم.
لكن تبقى العبرة الحقيقية، بعد كل هذه التحولات والاتفاقيات، في قدرة الأطراف على الانتقال من مرحلة التوقيع على الورق إلى مرحلة التنفيذ الفعلي على الأرض.
التاريخ مليء بالاتفاقيات التي تحولت إلى حبر على ورق بسبب المماطلة أو الالتفاف الحوثي على بنودها منذ نهاية يوليو 2004 إلى نهاية ديسمبر 2025.. الاعتراف بوجود محمد قحطان، أو الاتفاق على مبدأ "الكل مقابل الكل"، يظلان خطوات شكلية ما لم يتحولا إلى واقع ملموس يحقق الحرية للأسرى ويعيد الأمل بانفراجة إنسانية حقيقية.
التحدي الأكبر هو في ترجمة هذه الكلمات إلى أفعال، وهذا هو المحك الذي ستختبر فيه مصداقية مليشيا الحوثي ونواياها الحقيقية تجاه السلام واستعادة الحياة الكريمة للإنسان اليمني الذي أنهكته سنوات الحرب.. القيمة العملية لأي اتفاق لا تقاس بالتوقيعات وإنما بالنتائج الملموسة على الأرض وفي حياة الناس.









