ونحن ننتظر بشوق لحظة وصولهما، السويعات القادمة.. نتذكر خمسة وستين شهراً قضاها البطلان الأسيران العقيد محمد محمد عبدالله صالح والنقيب عفاش طارق صالح، خلف قضبان المليشيات الحوثية منذ ثورة الثاني من ديسمبر 2017 وحتى الثالث عشر من أبريل 2023 بما يزيد عن (47 ألف ساعة)، من الفراق القسري للحرية والأهل والحياة الطبيعية.
 
لا يحتاج المرء للكثير من الرومانسية للإحساس بمدى الوجع وسخرية الكلمات حين تُقتطف من عمر الأحرار زهراتُها ويُمتص رحيقها وتحرق في قبو أمام أعينهم؛ إذ يتسيد اللا فرق بين أن يكون المرء رماداً وبين أن يكون أسيراً في قبضة جلادين عتاة لا تتسع دهاليز أرواحهم لأي مكارم. 
 
قُطفت أثمن زهرات عمر البطلين محمد وعفاش، وارتقى أبطال آخرون شهداء يتقدم موكبهم الزعيم علي عبدالله صالح رحمه الله، والأمين عارف الزوكا، ثمناً لقضية عظيمة وعادلة آمنوا بها، تلك هي ديسمبر مبتدأ الثورة الثانية على النظام الإمامي الرجعي الذي عاد إلى الحياة بعد موته.
 
بقيت إرادة الأسيرين حية عصية على الفناء؛ لأن النسر الأصيل يبقى نسراً، طائراً أم سجيناً، مشبعاً بالحرية حتى وهو مكبل داخل القفص. ويبقي السجان هو السجين في بؤسه وتعاسة طويته؛ إذ ما هي الحرية سوى أنها إحساس المرء بكونه حراً وبتفوقه الأخلاقي على سجانيه وبعلو قضيته وعدالتها التي ضحى بحرية جسده من أجلها، مثلما هي العبوية إحساس المرء بكونه عبداً لطغيانه؛ حيث تخبرنا التجارب أن في داخل كل طاغية عبدٌ هش يتغلف بقماشة القوة.
 
خمسة وستون شهراً قضاها العقيد محمد والنقيب عفاش في الأسر، تعرضا خلالها لأشد أنواع الاضطهاد والألم والأمراض ومُنعوا من الزيارات والاتصال بالأهل والأصدقاء، لا تشهد أعينهم سوى السجانين والجدران الملطخة بالشعارات فيما تُجبر أسماعهم على التلوث بالهراءات والخطابات والمحاضرات الأشد تعذيباً للروح والعقل، لا يصلهم إلا الطعام الرديء، مُنعوا من متابعة كل ما يجري في الحياة حولهم؛ لأن الطغاة يؤرقهم ثبات الأسير في قبضتهم كما يؤرقهم من مترسه، ولذلك شددوا عليهما الضغط النفسي والروحي لتغيير أفكارهم وتبديلها والتراجع عنها، واستخدموا الترهيب والترغيب؛ إلا أن نمور ثورة ديسمبر عصاة على الترويض والانحناء.. أبطال يحتار الموقف عن أن ينتظم بما يليق برجولتهم وثباتهم وإبائهم، أو أن تنبئ الكلمات بوصف كافٍ لحجم ما لاقوه في سبيل قضيتهم.. إنهم- كما كل أسرى اليمن ومقاوميه- رجال يعزّ لهم بين الرجال نظير.. هم عطر ديسمبر وكريات دم الزعيم الشهيد علي عبدالله صالح وعزيمة العميد طارق وأكسجين الحرية ونبض المقاومة وأنشودة النخوة والمروءة وترانيم الشجاعة والتحدي.
 
إن التضحيات العظيمة ليست محصورة في الشهادة وحسب؛ فبلاء الفراق صعب شديد وممتد، فإن كان بلاء الشهيد ينتهي بموته؛ إذ يبدله الله خيراً مما فارق، فالأسير تتعذب روحه كل يوم ما دام للطغاة كلمة نافذة على حياته وعلى تفاصيل يومه وحياة وتفاصيل شعبه. 
 
حري أن نتمثل معاناة كل أسير، وأن نقدر الثمن الباهض الذي يدفعه من حياته وحريته وصحته وحزن أهله في سبيل شعب أزرى به الدهر فسقط أسيراً بقبضة لصوص متسلحين بالجهل والنار والتوحش.
 
مرحى بعودتكما، محمد وعفاش، شُم الأنوف، أباة الجبين.. نرى اليمن الحر يتدفق من عينيكما المجهدتين غابات من نخيل الحرية.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية