تابعنا عن كثب صفقات تبادل الأسرى بين الحكومة الشرعية ومليشيا الحوثي؛ لكن طبيعة هذا الموضوع أثار في المشاعر والوجدان صدمة وحيرة كبيرتين، حيث أعاد الجميع النظر وانبثقت الكثير من التساؤلات الملحة والمتعلقة بقضية الحرب اليمنية ومآسيها وأجوائها المرعبة التي خيمت على جغرافيا اليمن، وغيرت مجرى الحياة والوجود إلى جحيم مستعر وأسى شامل تفشى في أعماق الأرض والإنسان، وأذاقهما كل ما لا يمكن تخيله من صور الموت والهلاك وما لا يمكن تحمله أو التعايش معه.
 
الحرب ليست خلافاً بين طرفين، أو حادثة عابرة وتنتهي؛ بل إنها سلسلة متواصلة من الفناء وفقدان الحياة لقيمتها وبركان من النيران تتلقف كل ملامح البقاء والاستقرار وتجرف كل ما يقع أمامها من حياة، لتحل الموت الدمار والخراب التشرد والفقر كبدائل ومستلزمات حتمية وتفرضها واقعاً ملموساً إجبارياً، فلا يمكن الفرار من هذا الواقع أو تفاديه بأي شكل من الأشكال، كونها مأساة عامة تأكل الأخضر واليابس ولا تبقي خلفها إلا رماداً وأشلاء إنسان وأطلال حياة.
 
في ثماني سنوات قاحلات خسرنا وجودنا وفقدنا وطناً كنا ننعم في ظلاله بخيرات السكينة وابتسامة الاستقرار، وسيطر علينا الألم في شتى نواحي حياتنا، طحنتنا رحى الحرب ولفظتنا كأعجاز نخل خاوية أشباه موتى، وأنصاف مفقودين، لم يعُد لحياة من بقي منا حياً طعم ولا نكهة، إنما ادعاء وتوهم بالبقاء، بينما في الحقيقة نندب تعاستا ونستحضر أوجاعنا فيمن فقدنا أو من هو بعيد عنا معتقلاً أو مشرداً أو مقعداً في زاوية ما في الداخل أو في الخارج، فلدى كل أسرة وبيت يمنية جرعة ونصيب من الأسى، ولحظة حزن تقضم تفكيرها وخيالها المجنح أو إحساسها بأنها ما زالت على قيد الحياة.
 
ونحن نتأمل تلك الصور المتعلقة بالأسرى لحظة وصولهم أماكن استعادة حياتهم ولقائهم بأهاليهم وذويهم، يحز في النفس مرارة وغصة ما أوصلتنا الحرب إليه، وامتصاصها لتلك المشاعر المبتهجة والأفراح التي تسيطر على كل أسير وعلى ذويه وهم يتعانقون بعد غياب قاس ودموع لم تنطفئ طيلة سنوات الفراق، كما لو أن الجنة أشرقت في وجوههم كرّة ثانية إبان يأس مستفحل ووجع مستميت في البقاء.
 
حقاً إنها فرحة توحي بأنها يتيمة ومولود بكر ثبت حين شاهدناه متجسداً بعد إجهاض دائم للشعور بأية بهجة أو سرور في زحمة الخسارات المتدفقة والعذابات العارمة التي اكتسحت اليمن من أقصاه إلى إدناه، فجميعنا ضحايا ووقود تغذت الحرب على أجسادنا واقتات لظاها من حياتنا، وكلما كسبت يوماً آخر في عمرها، خسرنا بعضاً منا هناك أو هناك.
 
هكذا تراءت لي صفقة تبادل الأسرى وحاصرتني بهواجسها المخيفة وخيالاتها المريعة، حتى تجمدت حروفي وقادتني للانغماس في مستنقع الحرب وأحزانها القاتلة حيث تقليب صفحاتها منذ اشتعالها وحتى اللحظة يشل الحركة ويدمي القلب مهما كان المرء صلباً أو جلداً.
 
ولذا يجبرنا هذا الفعل أن نتشبث بأسنانا وعقولنا وقلوبنا بهذه اللحظة التي طُرح فيها أمامنا موضوع السلام كمعادل موضوعي لجائحة الحرب وبلوغ تراتبية متوازنة من التفاهمات والتقاربات وسريان هدنة طويلة الأمد تعيدنا إلى واقع سياسي مصبوغ بهدوء نسبي واستقرار ملموس وزحزحة فعلية لتجاوز ساحة الوغى والقعود على طاولة جلوس لا تتكئ على الدماء ولا تقتات على مزيد من الخلافات وجولات أخرى من الصراع الموحش، إنها فرصتنا الأخيرة والتفريط فيها يعني نفاد آخر صلة تدفعنا نحو السلام وترمي بنا إلى فناء وسقوط لا نجاة لأحد من الوقوع في قعره، أو قدرة على تسلق جدرانه.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية