جاء الإسلام لينطلق من النطاق المفاهيمي العربي نحو أفق عالمي "وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين"، ويحمل في طياته إعادة بناء نظرة الإنسان، العربي وغير العربي، وترميم ما فسد منها، للكون بشقيه الغيبي، واللاغيبي، ومما تتضمنه هذه الرؤية تكوين أساس للعلاقات البشرية يهمش الأساسات السابقة بما فيها قواعد التراتبيات الإجتماعية التقليدية والقبلية "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، "ولقد كرمنا بني أدم".

 

صحيح أنه أشار إلى علاقات قرابية عضوية (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) لكن ذلك لا يخرج عن كونه فعلاً تنظيمياً مؤقتاً بشاهد قوله تعالى في سياق النقد: "قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ... "، ومعلوم أن معظم المهاجرين من قبيلة قريش، ومعظم الانصار من الأوس والخزرج، إلا أن اللفظ القرآني ابتعد عن التوصيف القبلي إيحاءا باعتماد بنية غير قبلية للمجتمع الجديد.

 

إذن فقد كانت الثقافة القبلية التي شكلت الذهنية العربية، وبخاصة وسط الجزيرة العربية، هدفاً لأحد أهم معالم التغيير التي سعى إليها الإسلام. لكن بفعل الجهل وغالباً التشجيع تسربت مقولات اكتسبت طابعاً دينياً إسلامياً تعزز الشخصية القبلية داخل الإسلام.

 

الشكل الصارم لتثبيت النزعة القبلية العشائرية ومنحها مكانة محورية في الفكر والثقافة الإسلاميين جاء مع البناء الأيديولوجي الفارسي لفكرة التشيع.

 

وهذا ينقلنا إلى منعطف آخر يبرئ في ظاهرهالساحة الفارسية من وضع اللبنات الأولى للتشيع كونه ظهر في تعاطف صحابة مع الإمام علي بن أبي طالب، ربما يعود إلى اللحظات الأولى بعد وفاة النبي، إذا سلمنا بصحة الروايات التاريخية في الموضوع، ومن ثم يكون التشيع قد نشأ نشأة عربية لا فارسية، ما يقودنا إلى التساؤل: لماذا ظهر التشيع؟ ولماذا الإشارة بأصابع الاتهام إلى الثقافة الفارسية بشأنه؟

 

يكاد الاتفاق، صراحة أو ضمناً، يرجع أسباب تشظي الفكر والمجتمع الإسلاميين إلى العامل السياسي. والأمر صحيح في جملته ومظهره الأساسي باعتبار أن الحزم الإسلامية الثلاث السنية، والشيعية، والخوارجية حاولت وضع بذور نظريات سياسية إسلامية على أساس الموقف من خلفاء النبي الأربعة الأوائل، وما تلا ذلك من مساعي مد  الاختلافات، وتأصيلها ،إلى النطاقات العقائدية والطقوسية والتشريعية  والأخلاقية.

 

بيد أننا في العمق وتحت السطح السياسي للمسألة نجد فعل الثقافة القبلية، التي وسمت الحياة العربية، سيما وسط الجزيرة العربية.

 

نجد جلياً في الحزم الثلاث تأثير الثقافة القبلية في شروط تولي الخلافة، أعلى منصب في الدولة الإسلامية، حيث أشارت المذاهب السنية في مظاهرها الفقهية، أو القانونية بمفهوم معاصر، إلى شرط "القرشية"، وتأكيد المذاهب الشيعية على شرط "الفاطمية" بل وتضييقه أكثر في شرط "الحسينية" لدى أكبر مذهبين شيعيين، أما المذاهب الخوارجية فمع ما بدى عليها من طبيعة ديمقراطية لناحية شروط الخلافة فإنها في جزئية محورية فيها كانت ردة فعل ترغب في هدم المعبد على رؤوس الجميع طالما وقد حُرمت من شرعية الوصول إلى قمة الهرم السياسي للدولة، إذ أن التيار الخوارجي نشأ وترعرع في أوساط قبلية خارج الإطار القرشي وحليفه الأساسي الأوسي والخزرجي، والتحالفات التي أمكن تشكيلها لاحقاً، وتحديداً ظهور ونمو الحركات الخوارجية بين قبائل ربيعة الشق الرئيسي المقابل لمضر التي تعد قريش أحد فروعها، في عرف النسابين العرب.

 

الحقيقة أن الأمثلة كثيرة على استمرار فعل الثقافة القبلية، في الثقافة الإسلامية الناشئة  -وهذا ليس شيئاً معيباً في البدايات – أبرزها استمرار الموقع الأول في الدولة الإسلامية في المكون القبلي القرشي لنحو مئتين وأربعين سنة بصورة فعلية، بل إننا نرى ذلك التأثير في ملاحظة نسبة الولاة القرشيين على رأس التقسيمات الأقليمية الرئيسية للدولة الإسلامية في العصر الراشدي، غير اعتماد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب معيار درجة القرابة العشائرية من النبي كأحد معايير العطاء من الديوان المنشأ لغرض التوزيع من بيت المال، إضافة لانتفاضات الردة التي عمت قبليا معظم الجزيرة العربية، وماتناولته كتب التراث الإسلامي من حضور النزاعات ذات القاعدة القبلية في المسار الداخلي الإسلامي.

 

على ذلك فقد كانت الانقسامات السياسية الأولى للمجتمع الإسلامي في مظاهره الأساسية، السنية والشيعية، والخوارجية تعبيرات سياسية بداية، أخذت أبعاداً عقائدية وفقهية تالياً، وأيديولوجية عموماً تقوم في جرثومتها الجوهرية على البعد القبلي لثقافة ذلك الوقت.

 

لعل من التعسف تفسير الانشقاقات الإسلامية المبكرة بالقبيلة كعامل وحيد، هذا صحيح إذا أبقينا الأساس القبلي وحيداً في مرحلة التطور والانتهاء إلى التبلور الأيديولوجي.

 

نعود فنقول إن التشيع غرست بذوره منذ يوم السقيفة، وبعامل الثقافة القبلية، إذ سرعان ما سلم الأنصار بأحقية قريش بزعامة المجتمع الإسلامي بعد النبي، ولهذا السبب ذاته، أي الانتماء القبلي والعشائري، امتعض بنو عبد مناف، وخصوصاً بني هاشم من اختيار أبي بكر مع وجود من هو أقرب عشائريا للنبي، ويتمتع في الوقت نفسه بمزايا دينية، ألا وهو علي بن أبي طالب،وبهذا وضعت بوادر الصراع الداخلي بذورها، وتطور إلى مرحلة من الصدام العنيف الواسع، أو الحرب الأهلية مع انشقاق قرشي بدأ في النصف الثاني من عهد الخليفة عثمان وتعمق عقب مقتله بين علي ومعاوية، وما استتبعه من عملية استقطاب بين الطرفين أخذت بعدا إقليمياً بين العراقية والشامية، ربما كنسخة إسلامية لصراعات القبائل العربية العراقية الموالية للفرس، والقبائل العربية الشامية الموالية للروم في ما يعرف في الأدبيات الإسلامية بالعصر الجاهلي، ورغم حسم الصراع لصالح البيت الأموي استمر الاستقطاب ليأخذ بُعداً عاطفياً مع العشيرة الأقرب للنبي، أو العلويين بعد مقتل الحسين بن علي في كربلاء، ثم حوادث الانكسار التي تعرض لها البيت العلوي حتى على يد العباسيين بني عمومتهم الأقرب من الأمويين.

 

سلسلة حلقات تنشرها وكالة 2 ديسمبر من ملف بعنوان (السرطان الفارسي) – الحلقة الثالثة..

 

لقراءة المزيد:

  • السرطان الفارسي.. وهم التفوق (الحلقة 1)  
  • السرطان الفارسي.. مقاومة الإسلام (الحلقة 2)

أخبار من القسم

تطورات الساعة

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية